التكنولوجيات الحديثة .. آفاق جديدة أم نهاية العالم؟

قبل بضعة أعوام، توصل الفيزيائي ديفيد دويتش من جامعة أكسفورد إلى نظرية بسيطة ومخادعة سماها مبدأ التفاؤل.
من وجهة نظره، كل المعارف التي لا تناقض قواعد الفيزياء يمكن بلوغها من خلال تطبيق العلم والمنطق. المتغير الوحيد هو المدة التي نستغرقها في اكتسابها. "كل الشرور سببها قلة المعرفة"، كما أضاف ليبرز أهمية السعي السريع للبحث العلمي لجعل العالم أفضل.
ذلك تفكير متفائل في وقت مظلم. لكنه قد يوصف بالسذاجة بشكل كبير أيضا. فالأهوال الحالية في أوكرانيا وغزة ليست نتيجة نقص المعرفة العلمية. وفشلنا الجماعي في التصدي للاحتباس الحراري بفاعلية أكبر ليس بسبب نقص القدرات التكنولوجية بقدر ما هو بسبب الإرادة السياسية. بمعاينة حالة العالم الحديث واحتمالية حدوث حرب عالمية ثالثة، قد يستنتج كثيرون أننا من المحتمل أن نعود إلى العصور الوسطى المظلمة بدلا من عصور التنوير.
مع ذلك، إن قضية التفاؤل تنمو بقوة مع فتح التكنولوجيات الحديثة آفاقا أكبر للاكتشافات العلمية. فالآلات تجد مسارات جديدة للبحث وتضيف ملايين الباحثين الآليين الدؤوبين إلى قوتنا العاملة العلمية. قد يقدم الذكاء الاصطناعي الدفعة التي نحتاجها للإنتاجية الاقتصادية التي قد تخفف كثيرا من الضغوط الاجتماعية.
أعلن ديمس هاسابيس، المؤسس المشارك لشركة ديب مايند التابعة لـ"جوجل"، في محاضرة في كلية لندن الجامعية أننا ندخل عصرا جديدا "للعلم بسرعة رقمية" نتيجة الذكاء الاصطناعي. "نحن في عصر نهضة الاكتشافات العلمية"، كما قال "لدى الذكاء الاصطناعي إمكانات مذهلة للمساعدة في أكبر التحديات البشرية. ستكون أكثر التكنولوجيات التي قد نبتكرها تغييرا ونفعا".
أشار هاسابيس إلى مثال ألفا فولد، نظام ديب مايند لتعلم الآلة الذي تنبأ ببنية 200 مليون بروتين، ما أنشأ مصدرا لا يقدر بثمن للباحثين الطبيين. سابقا، استغرق وضع نموذج لبنية بروتين واحد من طالب دكتوراه ما يصل إلى خمسة أعوام. حسبت ديب مايند أن ألفا فولد قد وفر هكذا ما يساوي مليار عام من وقت البحث تقريبا.
كما تستخدم ديب مايند وآخرون الذكاء الاصطناعي لصنع مواد جديدة، واكتشاف أدوية جديدة، وحل الفرضيات الرياضية، والتنبؤ بالطقس بشكل أكثر دقة، وتحسين كفاءة مفاعلات الاندماج النووي التجريبية. استخدم الباحثون الذكاء الاصطناعي لتوسيع المجالات العلمية الناشئة، مثل علم الصوتيات الحيوية الذي قد يمكننا يوما ما من فهم الفصائل الأخرى مثل الحيتان والفيلة والخفافيش والتواصل معها.
لكن الذكاء الاصطناعي لا يقدم آفاقا جديدة للاكتشافات فقط، بل يمكننا أيضا من استخدام التكنولوجيا الموجودة بفاعلية أكبر. كانت إحدى أكثر المقابلات إلهاما هي التي أجريتها العام الماضي مع لويد ماينور، عميد كلية الطب في جامعة ستانفورد ومهتم بتبني الذكاء الاصطناعي في جميع مجالات الرعاية الصحية تقريبا. كانت حجته هي أنه بينما مكننا الإنترنت من نشر المعلومات، فإن الذكاء الاصطناعي الآن يساعدنا على استيعاب المعرفة.
اكتسبت هذه الثقة بالمستقبل إيحاءات أيديولوجية قوية في سيليكون فالي. كانت الحركة التسريعية الفاعلة - أو كما تختصر e/acc - تدافع عن قضية المضي قدما في التطور التكنولوجي بأقصى سرعة. أحد أكثر دعاتها المندفعين هو مارك أندريسن، المؤسس المشارك لشركة رأس المال المغامر أندريسن هورويتز، الذي نشر بيانه المتفائل بالتكنولوجيا العام الماضي.
يوبخ جيل زد المتشائمين من المشكلات العالمية بسبب إبطائهم للتقدم دون داع بالقلق حول الأضرار الجانبية للتكنولوجيات الجديدة، مثل المعلومات المضللة والتمييز واضطراب سوق العمل. يميل جيل زد إلى أن يكون لديه إيمان شبه ديني بأن التقدم التكنولوجي يمكن أن يحل بنفسه المشكلات التي توجدها التكنولوجيا في أغلب الأحيان (تماما كمرشحات البريد المزعج التي تزيل رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيها). لكن كثيرا من السياسيين يرفضون هذه الفلسفة. "لا يمكننا تبني ذلك مع الذكاء الاصطناعي. إنه خطير للغاية"، كما قالت جينا رايموندو، وزيرة التجارة الأمريكية، موضحة سبب إنشاء معهد سلامة الذكاء الاصطناعي.
سيعتمد ما إذا كان جيل زد على حق على أحد مبادئ دويتش الأخرى: أن الأخيار يميلون إلى الابتكار أسرع من الأشرار. "إن أعداء الحضارة جميعهم يشتركون في أمر واحد حتما: إنهم مخطئون. إنهم يخشون تصحيح الأخطاء والحقيقة لذا يقاومون التغييرات في أفكارهم، ما يجعلهم أقل إبداعا وأبطأ في الابتكار"، كما قال.
يعد مبدأ التفاؤل نظرية مطمئنة لنحافظ على استمرارها في العام الجديد، على الرغم من أنها غير قابلة للإثبات.