الموحدون الدروز: الجزء الثاني

الموحدون الدروز: 

حماة الأرض وروّاد الوحدة في قلب الأمة الإسلامية والعربية:

 ( الجزء الثاني)


بقلم: فاروق غانم خداج 

مدرس ومنسق ومدقق لغوي، كاتب له إسهامات بارزة باللغتين العربية والإنجليزية.


الأرض في العقيدة الدرزية: 

الوفاء للموطن واجب ديني
منذ نشأة طائفة الموحدين في بدايات القرن الحادي عشر، شكّل الدروز نموذجًا فريدًا لطائفة دينية استطاعت أن توفّق بين التشبث بأرضها وحماية وجودها، وبين المحافظة على الانتماء الأوسع إلى الأمة الإسلامية والعربية التي نشأت في حضنها.في الوجدان الدرزي، تعتبر الأرض أكثر من مجرد موطن جغرافي؛ فهي رمز للهوية، وميدان للجهاد في سبيل الكرامة. وتشير الكتب الدرزية، وفي مقدمتها القرآن ورسائل الحكمة، إلى أن الدفاع عن الأرض والعرض واجب مقدس، يُعبّر عن الوفاء لله، وللوطن، وللأمة.ولهذا السبب، تجد الموحدين أينما حلّوا، من جبل العرب في سوريا إلى جبل لبنان إلى الجليل والكرمل في فلسطين، يقفون دومًا كخط الدفاع الأول عن مناطقهم، رافضين أي احتلال خارجي أو تهديد داخلي.

الموحدون الدروز في قلب الإسلام: 

ارتباط لا ينقطع
رغم خصوصيتهم المذهبية، يعتبر الدروز أنفسهم طائفة إسلامية توحيدية، تنتمي إلى التيار الروحي الذي بزغ في قلب الحضارة الإسلامية.ويجلّ الدروز الصحابي سلمان الفارسي، الذي يرون فيه رمز الحكمة الإسلامية، كما يقدّرون شخصيات محورية في التراث الإسلامي مثل الإمام علي بن أبي طالب، الذي يعتبرونه قدوة في الفروسية والتقوى.وعلى امتداد تاريخهم، شارك الدروز في الدفاع عن الأمة الإسلامية:
في معركة حطين (1187م) قاتلوا تحت راية صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس.
خلال حكم المماليك، حموا سواحل الشام من الغزاة الصليبيين.
وفي الثورة السورية الكبرى (1925)، قاد سلطان باشا الأطرش مقاومة الاحتلال الفرنسي، جامعًا كل الطوائف تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع».
نموذج الدروز في إسرائيل: 

حماية الأرض دون تفريط بالهوية
في فلسطين المحتلة، خاصة في الجليل والكرمل، يجد الدروز أنفسهم أمام معادلة دقيقة:
يتمسكون بالدفاع عن القرى والجبال التي عاش فيها آباؤهم، ويرون في حماية الأرض واجبًا لا يُفرّط فيه، حتى في ظل الدولة الإسرائيلية.
وفي نفس الوقت، يُصرّون على أن هذا الولاء للأرض لا يعني تنكرهم لانتمائهم العربي والإسلامي.
وقد برز هذا الموقف في مناسبات كثيرة:
رفضهم قانون القومية الإسرائيلي الذي ينكر حقوقهم كعرب.
استمرارهم في التواصل مع إخوانهم الدروز في سوريا ولبنان، والدفاع عن القضايا العربية، وعلى رأسها فلسطين.
الابتعاد عن الفتن والقرب من كل المذاهب
من أبرز سمات الطائفة الدرزية عبر التاريخ الابتعاد عن الصراعات الطائفية، والقرب من كل المذاهب الإسلامية:
في لبنان، حافظوا على علاقات متينة مع السنة والشيعة والمسيحيين، خاصة في مرحلة   الزعيم كمال جنبلاط.
في سوريا، ظلوا قريبين من الدولة المركزية، ورفضوا كل مشاريع التقسيم.
وفي فلسطين، سعوا لبناء جسور تواصل مع المسلمين والمسيحيين، مؤكدين أن العدو المشترك هو الاحتلال، لا اختلاف المذاهب.

دفاعهم عن القضايا العربية: 
من صلاح الدين إلى عبد الناصر
وقف الدروز دومًا مع قادة الأمة الذين رفعوا راية العروبة والإسلام:
قاتلوا مع صلاح الدين الأيوبي في تحرير القدس.
قاد سلطان باشا الأطرش الثورة ضد الاستعمار الفرنسي.
انحازوا إلى جمال عبد الناصر ومشروعه القومي العربي، معتبرين وحدته قوة تحميهم وتحمي الأمة.كما شاركوا في كل الحروب العربية ضد إسرائيل، خاصة في الجولان، حيث برزوا كخط الدفاع الأول عن دمشق.
الدروز اليوم: 
بين محنة الاستهداف ونداء العودة إلى روح الإسلام
ورغم هذا التاريخ المشرق، يتعرض الدروز اليوم إلى حملة تنكر لتاريخهم وتضحياتهم، خاصة في سوريا، حيث تعرّضوا في السنوات الأخيرة لاعتداءات من قِبل جماعات متطرفة لا تمت إلى روح الإسلام بصلة.وقد شهدت محافظة السويداء، موطنهم الرئيسي في جبل العرب، مجزرة دامية راح ضحيتها أكثر من مئة شهيد من أبناء الطائفة، بينهم أطفال وعجزة، على يد تنظيمات إرهابية لا تفرّق بين بريء ومقاتل، ولا تحترم القيم التي دعا إليها الإسلام.
هذه المأساة تفتح جرحًا عميقًا، وتدعو كل الأحرار في الأمة إلى استذكار نداء النبي الأكرم ﷺ الذي أمر بالرحمة، وقال: «من لا يرحم لا يُرحم»، ودعا إلى حماية العهد والمواثيق، ونبذ العدوان على الآمنين.لقد كان الإسلام ولا يزال دين المحبة والتسامح، كما قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وإن ما يتعرض له الدروز وغيرهم من الطوائف هو خروج عن هذا النهج الإلهي.
إن العودة إلى روح الإسلام الأصيلة، التي تجمع ولا تفرّق، وترحم ولا تقتل، هو الطريق لاستعادة وحدة الأمة، وحماية الأقليات، وصيانة حقوق الجميع.

الخاتمة: 
الدروز نموذج لوحدة الأرض والهوية
إن تجربة الدروز تقدّم درسًا بليغًا لشعوب المنطقة:
أن حماية الأرض واجب ديني وقومي لا مساومة فيه.
وأن الارتباط بالأمة الإسلامية والعربية هو الأصل، مهما اشتدت الضغوط.
وبين هذين الثابتين، نجح الدروز أن يكونوا حماة الأرض ورواد الوحدة، مؤكدين أن الدفاع عن الوطن لا يعني الانسلاخ عن الهوية، بل هو تأكيد لها، وأن صوت الحكمة والرحمة الذي جاء به الإسلام هو البوصلة التي تضمن بقاء الأمة متماسكة في وجه الفتن.