والسّتون 🍂

 الكاتب

  عماد الاعور


في )) من كانونَ الثّاني، أستقبلُ عامي )) والسّتين، ومعه أُدركُ بعضَ الحقائقِ التي كشفتها لي الحياة. 


تعلّمتُ أنَّ الحقَّ، في جوهرِهِ، ليسَ مجرّدَ فكرةٍ، بل هو نورٌ أزليٌّ ينبعُ منَ المصدرِ الأوّل. الحقُّ ليسَ صارخًا، لأنّهُ لا يحتاجُ إلى الصّخبِ ليثبتَ وجودَه؛ هو إشراقٌ، يظهرُ للقلوبِ التي أبصرتْ بنورِ الفطرةِ، ويغيبُ عن تلكَ التي أظلمتْها شهوةُ الذّات. الحقُّ يسكنُ في السّكونِ، حيثُ لا صوتَ إلا صوتُه، وفي العيونِ التي ترى، حيثُ لا رؤيةَ إلا لرونقِه. إنّهُ خجولٌ أمامَ الضجيجِ، لكنَّهُ حاسمٌ كالشّمسِ التي لا يحجبُها الغمامُ إلا مؤقّتًا.


أمّا العدالةُ، فهي ميزانُ السّماءِ، ميزانٌ لا يخضعُ لمعاييرِ اللّحظةِ ولا لأهواءِ البشر. العدالةُ لا تُدركُ بمقاييسِنا نحن، لأنّها أكبرُ من أفقِنا الضّيّقِ وأعمقُ من تجاربِنا العابرة. إنّها نسيجٌ منَ الصّبرِ والزّمنِ، تتشكّلُ خيوطُهُ على مهلٍ حتى تستوي. قد تبدو غائبةً، لكنّها دائمًا تعملُ في الخفاءِ، وكأنّها يدُ القدرِ التي تسيرُ ببطءٍ، لكنّها لا تخطئُ الهدف. أدركتُ أنَّ العدلَ ليسَ نصرًا سريعًا، بل وعدٌ يطولُ، لكنَّهُ لا ينكثُ. 

والحقُّ، حينَ يُصاحبُ العدلَ، يكونُ كالشّمسِ والقمرِ، يكملُ أحدُهما الآخرَ في دورةٍ لا تنفكُّ عن النّظامِ الإلهي.


وأمّا الكلمةُ، فهي أعظمُ سرٍّ أودعهُ الخالقُ في البشريّةِ. “في البدءِ كانت الكلمةُ”، لكنّها لم تكنْ صوتًا عابرًا أو حرفًا مكتوبًا. كانتِ الكلمةُ فعلًا حيًّا، خلقًا وإبداعًا. الكلمةُ هي صورةُ الحقِّ في العالمِ المادّيِّ، وصدى النّورِ الأوّلِ الذي صنعَ الكون. إنّها من القوّةِ التي أخرجتِ الوجودَ منَ العدمِ، وهي من الرّوحِ التي تنبضُ في كلِّ ما هو حيٌّ. لكنّها ليستْ مجرّدَ وسيلةِ تواصلٍ بينَ البشرِ؛ إنّها صلةٌ بينَ الإنسانِ وخالقِه. حينَ ننطقُ كلمةَ الحقِّ، بالصّدقِ، فإنّنا نعيدُ صداها إلى أصلِها السّماويِّ، ونكونُ مشاركينَ في فعلِ الحقِّ.
الكلمةُ تسكنُ الفؤادَ قبلَ أن تخرجَ إلى اللّسانِ، فهي ليستْ مجرّدَ فكرةٍ تُقال، بل نورٌ يُشعلُ القلبَ، وفعلٌ يتجسّدُ في السّلوكِ. إنّها هبةٌ، لكنها أيضًا مسؤوليةٌ، لأنّها ليستْ ملكًا لنا، بل أمانةٌ أودعتْ فينا.
علّمني الحقُّ أن أكونَ صامتًا حينَ يصخبُ الآخرون، لأنَّ النّورَ لا يحتاجُ إلى ضجيج. علّمتني العدالةُ أن أثقَ في الزّمنِ، لأنَّ الموازينَ السّماويةَ أدقُّ ممّا نظنُّ. وعلّمتني الكلمةُ أن أقدّرَ كلَّ لفظٍ أطلقَه، لأنَّ كلَّ كلمةٍ تحملُ ثقلَها في السّماءِ والأرض.
ثمَّ نظرتُ إلى الأطفالِ، ورأيتُ فيهم أقربَ الكائناتِ إلى جوهرِ الحقيقة. إنّهم ينظرونَ إلى العالمِ بعيونٍ لم يُثقلْها الزّيفُ ولم تُظلّمْها الأحكام. في ضحكاتِهم، تجدُ نقاءً لا يُدركُهُ العقلُ، بل يحسُّهُ القلب. هم يعلّموننا أنَّ الحبَّ ليس وعودًا ولا كلماتٍ، بل نعمةٌ تُمنحُ بسخاءِ، كما يمنحُ الوردُ عطرَهُ دونَ سؤال. الأطفالُ يدركونَ الحبَّ بفطرتِهم أكثرَ ممّا يدركُهُ الزّاهدونَ أو المتعبّدونَ، لأنَّ قلوبَهم لم تُعكّرْها ظنونٌ أو حسابات. إنّهم يعيشونَ النّقاءَ كما هو، وكأنّهم مرآةٌ تعكسُ وجهَ السّماءِ.


أمّا الأمهاتُ، فهنَّ الحكايةُ الأجملُ في كتابِ الحياة. رأيتُ فيهنَّ شركاءَ أيّوبَ في صبرِه وثباتِه. يحملنَ الأوجاعَ بقلوبٍ مُحبّةٍ، لا عن ضعفٍ، بل عن قوّةٍ تستمدُّ طاقَتَها منَ الرّحمة. الأمُّ هي منبعُ الحياةِ، لا فقط لأنّها ولدتْ، بل لأنّها تمنحُ الحياةَ كلَّ يومٍ، في لمسةٍ حانيةٍ، في كلمةٍ مشجّعةٍ، في دعاءٍ لا ينقطع. هي تعطي دونَ أنْ تنتظرَ، كالنّهرِ الذي لا يملأُ يديْهِ بما يمنح.


وأمّا الآباءُ، فهم الشّعلةُ التي تُضيءُ الدّروبَ إذا أضاءتْ أرواحُهم بنورِ العطاء. الأبُ الحقيقيُّ ليسَ مَنْ يُنجبُ، بل مَنْ يكونُ سندًا وظلًا وطمأنينة. هو الشّجرةُ التي تنحني لتظلّلَ أبناءَها، والجبلُ الذي يحملُهم في صعودِهم دونَ أن يظهرَ تعبُه. الأبُ يعطي بلا حسابٍ، لكنّه يعلّمُ أبناءَهُ أنَّ الأخذَ مسؤوليةٌ، وأنَّ الحياةَ ليستْ عطيّةً مجانيّةً، بل مشاركةٌ في البناء.


العائلةُ، في عمقِها، ليستْ مجرّدَ روابطَ دمٍ أو نسبٍ، بل هي سرٌّ أعظمُ، سرُّ السّعادةِ حينَ تُدركُ حقيقتَها. العائلةُ هي وطنٌ صغيرٌ، يحملُ دفءَ الألفةِ، وعظمةَ المغفرةِ، وقوّةَ الحبِّ الذي يتجاوزُ الأخطاء. حينَ يعرفُ أفرادُ العائلةِ سرَّهم، حينَ يُدركونَ أنّهم مجتمعونَ على محبّةٍ لا تنفكُّ، تصبحُ العائلةُ جنّةً صغيرةً في الأرض. هي المكانُ الذي نعودُ إليهِ مهما أبعدتْنا الحياةُ، والملاذُ الذي لا يغلقُ أبوابَه.


أمّا الأصدقاءُ، فهم ملائكةٌ مرسلةٌ بأجنحةِ الإخلاص. ليسَ الصّديقُ مَنْ يقفُ إلى جانبِكَ فقط، بل مَنْ يحملُ قلبَهُ لكَ حتى في غيابِكَ. الصّديقُ الحقيقيُّ هو مرآةٌ صافيةٌ ترى فيها أفضلَ ما في نفسِكَ، وهو يدٌ تمتدُّ لتنتشلَكَ حينَ تَعثُر. أصدقاءُ الرّوحِ هم هديّةُ السّماءِ لمنْ عرفَ قيمةَ الوفاءِ. صداقتُهم لا تخبو معَ الزمنِ، بل تقوى، لأنّها مبنيّةٌ على الإخلاصِ لا المصالح.
علّمتني الحياةُ أنَّ الأطفالَ هم أملُ النقاءِ، والأمهاتِ مَعينُ الرّحمةِ، والآباءَ شعلةُ العطاءِ، والعائلةَ هي بيتُ السّعادةِ، والأصدقاءَ هم كنوزُ الإخلاص. كلُّ هؤلاءِ هم ألوانٌ في لوحةِ الحياة، لوحةٌ رسمتْها يدُ الخالقِ بإبداعٍ لا يُضاهى، ومنحنا إيّاها لنحياها بشكرٍ وحبٍّ وأمل.


أكبرُ النِّعَمِ هي تلكَ التي تُنيرُ القلبَ وترتقي بالنَّفسِ: المعرفةُ التي تفتحُ أبوابَ الحقِّ، والعرفانُ الذي يُزهِرُ شكرًا في الفؤادِ، والإحسانُ الذي يُهدي النُّورَ للعالمين، والعطاءُ الذي يُحيي الأنفسَ في سرِّ البذلِ. هي في علمِ اليقينِ الذي يُثبّتُ القدمَ، وعينِ اليقينِ التي ترى بنورِ الحقيقة، وحقِّ اليقينِ الذي يجمعُ بينَ الفهمِ والتّسليمِ. وهي في الرِّضا الذي يُسكنُ القلبَ، والتسليمِ الذي يُطهِّرُ النَّفسَ، فلا سعادةَ أعظمَ من الغوصِ في بحرِ الطُّمأنينةِ تحتَ نورِ الحقِّ والعطاءِ

.٢٠٢٥/٠١/٠٤

@جميع الحقوق محفوظة