الدراما التاريخية التلفزيونية  ...واشكالية المرجعي والمتخيل

 شوكت أبوفخر - 1- 8- 2023

 إلى وقت كتابة هذه المادة ، وإلى اجل غير محدد ، سيبقى الجدل قائما حول حرية  "الإبداع " في تناول الشخصيات التاريخية ، أوالدينية من خلال أعمال درامية ،وتحديداً الدراما التلفزيونية. مرد هذا الجدل أو الاشتباك المفتوح يتأتيان من تناول الكتاب للتاريخ، والآفاق التي يمكن أن يصل إليها الكاتب في معالجته للمادة التاريخية ، بما قد يخالف ما هو ثابت تاريخياً، سواء أكانت الحجة في ذلك هي تصحيح رواية تاريخية مغلوطة، أو الانتصار لوجهة نظر معينة في تفسير التاريخ، أو حتى تقديم رواية جديدة للوقائع التاريخية. 

فمع كل مسلسل تاريخي ، أو ديني ، وحتى في مسلسلات السير والتراجم  ، وفي اعقاب كل موسم رمضاني ، (باعتبار الدراما التلفزيونية التاريخية ،او الدينية تحضر كطبق رئيس في القنوات الفضائية ) يتجدد الاشتباك بين المعنيين بالتاريخ ،وكتاب الدراما ، أحدهما ينتصر للتاريخ ، والآخر يذود عن حرية الابداع ، فيتمخض عن هذا الاشتباك ثنائية : المرجعي والمتخيل  .  

وليصير طرفا الصراع بين التاريخي والابداعي ،وعليه كيف يكون تعامل كتاب السيناريو ممن ينشدون توصيل رسالاتهم إلى جمهور عريض مختلِف المشارب والأذواق ؟؟!

 اشتباك له ما يبرره ،من وجهة نظر فريقين معنيين بالتاريخ والدراما ، لكن هذا المبرر لا يجب ان يأخذنا إلى غير وجهة ، والتسليم بأن الفريقين على حق مطلق. من هذا المنطلق يبرز التساؤل حول حدود الاستلهام من وقائع تاريخية ومقتضيات السرد الملائم للدراما التاريخية ،ومعايير الاعداد الدرامي الجيد للسير والتراجم  ،عند تجسيدها على شاشة التليفزيون ،لكن تبقى الاسئلة قائمة من قبيل متى يصبح العمل الفني تأريخاً ومتى يصبح تزييفاً ؟  

 وبأي منطق نحكم على العمل الفني ؟ بمنطق الصدق الفني ، أم بمنطق الصدق التاريخي ؟ وهل ثمة تعارض بينهما بالأساس .؟ أيضا هل المؤلف حر في تغيير وقائع التاريخ بذريعة " الابداع" .؟ 

وإذا جنح المسلسل الدرامي نحو مكوَّن التخييل وابتعد عن المكوَّن التاريخي هل يعد ذلك التزاماً بالرؤية الفنية للكاتب ، أم تجاهلاً للتاريخ ، أم جهلاً به ؟؟

 لا بد من الاعتراف بأن المغري في الحديث ، عن تلك النوعية من الدراما ،هو ما يتم التغاضي عنه ، ألا وهو التاريخ، أي مادتها الأساسية، ويتم هذا تحت حجة أو مقولة  إن الدراما التاريخية ، ليست غايتها أن تكون كتابا مدرسيا مصوراً، أو حصة درسية لوقائع التاريخ المدون. 

يبقى الجدل في الدراما التاريخية حول مصداقية النص أو دقة التناول للتاريخ، أو كيفية تناول الشخصيات من حيث الشكل واللغة وغيرها، ولم يكن غريباً أن يكثر هذا الجدل مع ظهور أعمال جنحت إلى مخالفة الأحداث التاريخية، بهدف تحقيق الإثارة والتشويق على حساب المصداقية. 

لن نسمي مسلسلا ، حتى لا يساء الفهم ، لكننا لن نكون بلهاء ونحن نرى تزييفا فاضحا وطمسا لحقائق ،فالاشكالية ليست محصورة بمسلسل بعينه ،بقدر ما هي اشكالية كبيرة وقديمة وستبقى وتتجدد مع كل إعلان عن قرب صدور أو عرض عمل درامي تاريخي . هنا يتجدد السجال حول مضامين العمل ومدى اخلاصه للوقائع التاريخية ، بل ويتخذ السجال طابعاً عقدياً ، تغذيه الحساسيات الطائفية ،إذا تمحور العمل حول شخصية تاريخية يكتنفها الجدل ، والأمثلة القريبة والبعيدة كثيرة ولنا في ما حدث في رمضان الفائت خير مثال .. 

وإلى جانب الجدل حول المادة التاريخية ،تلقي الصراعات السياسية والأيديولوجية بضلالها على الأعمال الدرامية التاريخية. وتقوم دول برصد ميزانيات ضخمة لصناعة دراما تاريخية تعزز مكانتها ورؤيتها لصراعات الحاضر. 

 حتى مسلسلات السير الذاتية لشخصيات مازال شهود فترتهم أحياءً وجدت نقداً لاذعا من النقاد والمؤرخين، واعتبروها تزويراً للحقائق .فلماذا المضي في طريق يقود إلى مزيد من الانقسام والتناحر ،وأي نتيجة مبتغاة من هكذا دراما كيدية ..؟!  

الموضوع جدلي بامتياز ،وحقل شائك وغني . فكل الأعمال الدرامية التاريخية  أثارت الجدل دائما، سواء فيما يتعلق بتجسيد الشخصيات الدينية أو مدى التزامها بالوقائع التاريخية ،لذلك سيكون حديثنا حول مدى التزام كاتب الشخصيات التاريخية ،بالوقائع التاريخية . 

بداية لا بد من الاقرار؛ أن علاقة التاريخ الشائكة والملغومة مع الدراما ، أخذت حيزاً كبيراً من التفكير ، وكانت مادةً لقراءات نقدية لمفهوم التاريخ والحاجة الملحة إليه وتبعات استعادة تاريخٍ معيّن دوناً عن الآخر.

 والسؤال القديم الجديد ، هو هل الرواية التاريخية ، أو الدراما التاريخية ، توثيق أمين لأحداث الماضي ، أم إعادة خلق لها من جديد  مع ترك خيال المبدع ومعالجاته الفنية، تختار ما يشاء تبعا لما هو عليه ، وما يريد ايصاله للمشاهدين .؟ 

 بعض كتاب الدراما التاريخية يرى ، أنه ليس غاية هذه  الدراما أن تقدم مادة درسية مصورة لوقائع التاريخ المدون. بالمقابل، حسب آخرون ، لا يصح أن تضحي المعالجة الدرامية ، والفكرية بنسق الوقائع التاريخية ، وتترك لصناع الدراما وكتابها مساحات فارغة معتبرة تملؤها مخيلتهم  فيبتدعوا فيها مادة سردية شائقة من شخصيات ووقائع ومواقف لا تجدها في المدونة التاريخية ،وهنا فان المشاهد سيجني احباطا منقط النظير، حين يصر صناع الدراما على تصدير الصورة الملائكية النقية  الورعة على رأي الكاتب المصري صلاح عيسى ، وهنا قد يصرخ أحدهم، كصرخة لتتحول مسلسلات السير "لمسلسلات المناقب التلفزيونية" ذاك الطفل البريء ،عندما  صرخ بأعلى صوته :"إنّي ارى الملك عاريا "

 ضاربا عرض الحائط  بخدعة الملك وخدعة خياطه المحتال وثوبه السحري الذي لا يراه إلا الحكماء.! لفض الاشتباك ،  يرى فريق يقف في المنتصف : أنه لا بد أن تكون الحدود واضحة ،والضوابط محددة  من قبل فريق من الحكماء  ، للعلاقة بين الدراما الفنية والأحداث التاريخية يلتزم بها كتاب الدراما ، حتى لا يحدث تشويه وتشويش . 

بالاتساق مع وجهة النظر هذه  ، نقول إن صانع  الدراما غيرمطالب بالخضوع كليا لحقائق التاريخ ،لكنه بالوقت نفسه مطالب بعدم مناقضتها أو تجاهلها ،أو تجميلها بما هو ليس فيها ، فهناك أبعادا فكرية وأخلاقية كبيرة عند الكلام عن التاريخ أو التعامل معه كثابتٍ غير قابل للتغيير أوالتغيّر وفق معطياتٍ جديدة، أو لدى محاولة إعادة قراءته من وجهات نظر مختلفة قد تكون أقل تمثيلاً ضمن السردية السائدة.

 من هذا المنطلق لم يكن غريبا أن تثير أعمال درامية تاريخية لشخصيات ،ردود فعل سلبية، لأنها من وجهة نظر البعض بعيدة كل البعد عن الحقائق تتعلق بشخصيات تناولها كاتبها بمزاجه الخاص،ولم يستند إلى قراءات مختلفة وعديدة، ودون مقارنتها مع مرجعيات أخرى للوصول إلى شكل مقبول للعمل أو للشخصية.  

بالعموم  شكّلت مسلسلات الحِقَب التاريخية ،صورة ايجابية متخيلة  ، تقوم على مزج الواقع بالخيال وبات الهرب من الحقائق سمة عامة للكثيرين ، بحجة عدم إثارة أي نزعاتٍ طائفيةٍ أو عرقية ، أو عدم تقديم مادة "إشكالية" في رمضان.

  لكن ذلك لا يعني أن تجنح الدراما التاريخية إلى الاخلال بالحقائق التاريخية أو التعسف في استقراء المادة التاريخية ،على نحو فج خدمة لمنظور أيديولوجي مسبق ، ووفقا لمقتضيات الفن الدرامي .

 إن انصاف الشخصيات التاريخية وتسليط الضوء عليها ،لا يعني انتحال تاريخ مزيف لها ،لإرضاء هذه الدولة ، أو المذهب أو الزعيم ،كذلك فإن طمس حقائق مثبتة لهذه الشخصية، لا يقبل بشاعة عن تلميع هذه الشخصية . 

إشكالية التاريخ والدراما التاريخية، نابعة اصلا من اشكالية التعامل مع التاريخ ذاته، فالتاريخ ليس بحاجة إلى كتّاب الدراما ، أو غيرهم لتشويهه، فتحريفه قائم ومعروف ، عبر العصور من طرف البعض لأسباب سياسية أو ذاتية، وثمة فارق هائل بين الاختلاف حول دقة واقعة تاريخية أو تفسيرها، وبين طمس حقائق تاريخية بأكملها أو تقديم تفسيرات مغلوطة لها.

 وعليه سيبقى الجدل حول هذه الأعمال قائما، مع الاعتراف أن الدراما التلفزيونية التاريخية ،استطاعت بلورة وعي جديد لأحداث تاريخية تناولتها ،ففتحت الابواب على الكثير من المسكوت عنه ،وتناولت العديد من الوقائع والاحداث ، والشخصيات ،الاشكالية ؛وهذا ترميم جديد للمكتوب وغيرر المرئي من التاريخ . 

خلاصة القول : يظل التعامل الرشيد مع التاريخ خياراً ممكناً ، وتبدأ الدراما حيث ينتهي المؤرخون ،مع ضرورة تحرر الكاتب من الميل والهوى ونزوعه للتجرد من تفضيلاته الأيدولوجية عند تعامله مع حقائق التاريخ ، وهي المادة الخام لمسلسله  ولصناع الدراما وكتابها ان يبدعوا فنيا ، ويحلقوا  بخيالهم  انطلاقاً من حقائق التاريخ ومعطيات الواقع . أما اذا مضينا في استحضار وتجميل الماضي ،ولم نخرج من جلبابه إلى فناء انساني رحب ، فسوف يصرخ مزيد من الناس اننا نرى الملك عاريا ، فالخطورة أن مشاهدي الأعمال الدرامية لا يتوفر فيهم بالضرورة الوعي المطلوب للتمييز بين الحقيقة والزيف فيما يشاهدونه، وهو ما يهدد بتزييف وعي قطاعات من الرأي العام في قضايا بالغة الأهمية.