الكاتب عماد الاعور
العَقْلُ هُوَ تِلْكَ الجَوْهَرَةُ الإِلَهِيَّةُ الَّتِي وَهَبَهَا الخَالِقُ لِلإِنسَانِ، أَدَاةٌ سَامِيَةٌ تَتَجَاوَزُ حُدُودَ التَّحْلِيلِ وَالتَّفْكِيرِ السَّطْحِيِّ لِتَغُوصَ فِي أَعْمَاقِ الوُجُودِ، حَيْثُ تَكْشِفُ الحُجُبَ وَتُضِيءُ طَرِيقَ الإِدْرَاكِ. إِنَّهُ المِرْآةُ الَّتِي تَعْكِسُ شُعَاعَ الحَقِيقَةِ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ، وَمِيزَانُ الدِّقَّةِ الَّذِي يَزِنُ بِهِ الإِنسَانُ مَعَانِيَ الأَشْيَاءِ وَجَوْهَرَهَا.
العَقْلُ لَيْسَ مُجَرَّدَ أَدَاةٍ تَجْمَعُ المَعْلُومَاتِ أَوْ تُحَلِّلُ الظَّوَاهِرَ، بَلْ هُوَ سِرٌّ مُتَّقِدٌ يَنْبُضُ بِالحَيَاةِ الإِلَهِيَّةِ، يَرْبِطُ بَيْنَ التَّجْرِبَةِ الفَرْدِيَّةِ وَالكُلِّيَّةِ، وَيَقُودُ الكَائِنَ البَشَرِيَّ إِلَى تَجَاوُزِ الظَّوَاهِرِ المَادِّيَّةِ نَحْوَ جَوْهَرِ الحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ. إِنَّهُ مَوْضِعُ التِّقَاءِ العَقْلِ الفَرْدِيِّ بِالمُطْلَقِ، حَيْثُ تَذُوبُ الحُدُودُ بَيْنَ الذَّاتِ وَالكَوْنِ، وَيُصْبِحُ الإِنسَانُ شَاهِدًا عَلَى وَحْدَةِ الوُجُودِ.
العَقْلُ هُوَ أُفُقُ التَّجَلِّي، حَيْثُ تَتَلَاقَى الفِكْرَةُ مَعَ الحَقِيقَةِ، وَالمَعْرِفَةُ مَعَ الوَعْيِ. عَبْرَهُ يُصْبِحُ الإِنسَانُ قَادِرًا عَلَى رُؤْيَةِ مَا وَرَاءَ الحُجُبِ، وَفَهْمِ العَلَاقَاتِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ المَوْجُودَاتِ. إِنَّهُ لَيْسَ آلَةً جَامِدَةً لِمُعَالَجَةِ المُعْطَيَاتِ، بَلْ هُوَ طَاقَةٌ خَلَّاقَةٌ، يُعِيدُ تَشْكِيلَ الفَوْضَى إِلَى نِظَامٍ، وَيُحَوِّلُ التَّجْرِبَةَ العَابِرَةَ إِلَى إِدْرَاكٍ خَالِدٍ.
وَفِي رِحَابِ هَذَا العَقْلِ، تَتَجَلَّى قُدْرَةُ الإِنسَانِ عَلَى إِدْرَاكِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الظَّاهِرِ. فَمِنْ خِلَالِ التَّأَمُّلِ العَقْلِيِّ، يَنْتَقِلُ مِنَ الإِدْرَاكِ الحِسِّيِّ المَحْدُودِ إِلَى فَضَاءِ الإِدْرَاكِ الشُّمُولِيِّ، حَيْثُ تَتَّضِحُ الصُّورَةُ الكُبْرَى، وَيَتَّصِلُ الفَرْدُ بِحَرَكَةِ الوُجُودِ الكَوْنِيَّةِ.
العَقْلُ الكُلِّيُّ، الحَقِيقَةُ العُظْمَى. إِذَا كَانَ العَقْلُ الفَرْدِيُّ يُمَثِّلُ شُعَاعًا مِنَ النُّورِ، فَإِنَّ العَقْلَ الكُلِّيَّ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي لَا تَغِيبُ. إِنَّهُ النِّظَامُ الإِلَهِيُّ الَّذِي يَرْبِطُ كُلَّ شَيْءٍ فِي وَحْدَةٍ مُتَنَاغِمَةٍ، القُوَّةُ الَّتِي تُنَظِّمُ الكَوْنَ فِي تَوَازُنٍ سَرْمَدِيٍّ. هَذَا العَقْلُ الكُلِّيُّ هُوَ تَعْبِيرٌ عَنِ الإِرَادَةِ الإِلَهِيَّةِ المُطْلَقَةِ، الَّتِي تَتَجَلَّى فِي انسِجَامِ المَخْلُوقَاتِ وَحَرَكَتِهَا ضِمْنَ دَائِرَةِ الوُجُودِ الكُبْرَى.
العَقْلُ الفَرْدِيُّ يَسْتَمِدُّ قُوَّتَهُ مِنَ العَقْلِ الكُلِّيِّ، كَالنَّهْرِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنَ البَحْرِ، وَحَرَكَتُهُ لَيْسَتْ إِلَّا صَدًى لِتِلْكَ الإِرَادَةِ العُلْيَا. العَقْلُ الكُلِّيُّ هُوَ مَنْبَعُ الحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَهْدِي الكَائِنَاتِ إِلَى غَايَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ مِنَ الجُزْئِيَّاتِ المُتَفَرِّقَةِ أَجْزَاءً مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ.
فِي هَذَا العَقْلِ الكُلِّيِّ، تَلْتَقِي كُلُّ العُقُولِ وَالوَعْيِ الفَرْدِيِّ لِتُصْبِحَ جُزْءًا مِنْ نَسِيجٍ وَاحِدٍ، يَتَنَاغَمُ فِيهِ الكَوْنُ فِي وَحْدَةٍ شَامِلَةٍ. العَقْلُ الكُلِّيُّ لَا يُدْرَكُ بِالعَقْلِ فَقَطْ، بَلْ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الفِكْرِ البَشَرِيِّ، لِيُصْبِحَ الإِنسَانُ مِنْ خِلَالِهِ شَاهِدًا عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ المُتَجَلِّيَةِ فِي كُلِّ تَفْصِيلٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الوُجُودِ.
العَقْلُ وَالوَعْيُ العرْفاني اليَقِيني، الطَّرِيقُ إِلَى الوَحْدَةِ الإِلَهِيَّةِ. العَقْلُ الفَرْدِيُّ هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ بَابَ المَعْرِفَةِ، لَكِنَّهُ لَا يُكْمِلُ طَرِيقَهُ إِلَّا بِصُحْبَةِ الوَعْيِ. الوَعْيُ هُوَ الرُّوحُ الَّتِي تَبُثُّ الحَيَاةَ فِي العَقْلِ، وَهُوَ النَّبْضُ الَّذِي يَجْعَلُ الفِكْرَ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَمَلِيَّةٍ تَحْلِيلِيَّةٍ، بَلْ تَجْرِبَةً عَمِيقَةً تَكْشِفُ المَعْنَى وَرَاءَ الشَّكْلِ.
وَفِي لَحْظَةِ الانْسِجَامِ بَيْنَ العَقْلِ وَالوَعْيِ، يُدْرِكُ الإِنسَانُ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ فَرْدٍ مُنْعَزِلٍ، بَلْ جُزْءٌ مِنْ وَحْدَةٍ كَوْنِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ. هُنَا، تَتَلَاشَى حُدُودُ الذَّاتِ، وَيَنْفَتِحُ الأُفُقُ عَلَى الحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ، حَيْثُ يُصْبِحُ الإِنسَانُ لَيْسَ فَقَطْ كَائِنًا مُفَكِّرًا، بَلْ شَاهِدًا عَلَى وَحْدَةِ الوُجُودِ الإِلَهِيِّ الَّتِي تَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي نَسِيجٍ مُتَمَاسِكٍ وَمُقَدَّسٍ.
العَقْلُ الكُلِّيُّ، سِرُّ الإِرَادَةِ الإِلَهِيَّةِ. العَقْلُ الكُلِّيُّ لَيْسَ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ، بَلْ هُوَ الحَقِيقَةُ المُتَجَلِّيَةُ فِي حَرَكَةِ الكَوْنِ بِأَسْرِهِ. إِنَّهُ العَقْلُ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنْهُ القَوَانِينُ الكَوْنِيَّةُ، وَتَنْسَجِمُ فِيهِ الإِرَادَةُ الإِلَهِيَّةُ مَعَ تَفَاصِيلِ الوُجُودِ.
فِي نِهَايَةِ المَطَافِ، العَقْلُ هُوَ المِفْتَاحُ الَّذِي يَفْتَحُ بَابَ الوُصُولِ إِلَى الحَقِيقَةِ الكُبْرَى، حَيْثُ يَتَعَانَقُ الفِكْرُ مَعَ الإِيمَانِ، وَالمَعْرِفَةُ مَعَ التَّأَمُّلِ، وَيُصْبِحُ الإِنسَانُ جُزْءًا مِنْ تَجْلِيَاتِ الإِبْدَاعِ الإِلَهِيِّ فِي أَرْقَى صُوَرِهِ.