كيف تزيّف الترندات وعينا وتخطف أولوياتنا؟

الكاتبة والباحثة  الاستاذة 

لور عبد الخالق الأعور


لا شيء يطغى اليوم على وقع الترندات. إنها تتسلل إلى وعينا كأنها الحقيقة الوحيدة الممكنة، فنتلقفها ونتفاعل معها، أحياناً بلا سؤال، بلا تمحيص. في عالم يتغير كل لحظة، بتسارع لا يُمهل، يبدو أن الأكثر رواجاً هو الأكثر صدقاً، أو على الأقل، الأكثر جدارة بالاهتمام. 

لكن، هل هذا صحيح فعلًا؟ أم أننا نسير خلف وهمٍ جماعي، يُبعدنا عن القضايا التي تستحق الوقوف عندها؟
في هذا الفضاء الرقمي غير المنضبط، تُصنع القضايا على مقاس الإثارة، لا على مقياس الأهمية. يلهو الناس بمحتويات مصطنعة، فيما الواقع يمتلئ بأسئلة عالقة لم تعد تُطرح، لا لأن أجوبتها وُجدت، بل لأن لا أحد عاد يهتم.
إنّ أهمّ ما يجب أن نتوقّف عنده هو لماذا ننجرف خلف الترندات؟
ثمة شيءٌ ما في الإنسان يدفعه دوماً إلى الانتماء. أن نكون “مثل الآخرين”، أو على الأقل “لا نبدو مختلفين كثيراً”، صار مطلباً نفسياً، خاصة في العالم الافتراضي، حيث عدد الإعجابات يعادل مستوى القبول الاجتماعي. 

لهذا، فإن اللحاق بالترند ليس فقط عادة، بل غريزة اجتماعية متخفّية.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الحاجة إلى التسلية. كثافة الضغوط اليومية تجعل الكثيرين يبحثون عن أي منفذ خفيف يخفّف عنهم ولو قليلاً. وهنا تظهر الترندات كملاذ سهل، متكرر، ومرئي للجميع.
لكن الأهم من ذلك، أن الخوارزميات لا تترك لنا خياراً. فهي تصمّم خصيصاً لتدفعنا نحو ما يتكرّر أكثر، فتخلق وهماً جماعياً بأن هذا هو “ما يهتم به الجميع”، رغم أن “الجميع” هذا قد لا يكون أكثر من دائرة ضيقة أُعيد تدوير محتواها.

فما الذي نسخره؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وما الحلّ؟
في البداية، يبدو الأمر بسيطًا: مقطع ترفيهي، “ترند مضحك”، لحظة هروب. لكن المشكلة ليست في الدقيقة التي نقضيها، بل في الساعات التي تتسرّب خفية. يصبح الوقت، الذي يمكن أن نستخدمه في التعلم أو التفكير أو حتى الراحة الحقيقية، مهدورًا في تكرار لا يُثمر.
ثم يأتي الضرر الأكبر: تشويه البوصلة الجماعية. حين يتصدّر محتوى سخيف واجهة الاهتمام، بينما تمر قضايا مثل العنف، الفقر، الأزمات البيئية بلا تفاعل يُذكر، فإن الوعي الجماعي يصيبه الخدر. تصبح القضايا التافهة “ضخمة”، فيما الحقيقية “لا ترند لها”.
ولا يمكن أن نتجاهل كيف تصنع الترندات صورة زائفة للحياة. ترندات تُلمّع مظاهر النجاح، الجمال، أو العلاقات المثالية، دون كشف ثمنها أو زيفها. 

وهنا، يتسلل الشعور بالنقص والخذلان، خاصة لدى فئة الشباب، فيتكون شعور خفي بأن “الآخرين يعيشون أفضل” بينما نحن خلف الشاشة فقط نراقب.
الترند، كفكرة، ليس شرًا. لكن تحويله إلى معيار للحقيقة، أو مقياس للقيمة، هو ما يشكّل الخطر. 

ولهذا، فإن استعادة التوازن تتطلب: 

 تعليم مهارات التفكير النقدي من سن مبكرة، ليصبح السؤال جزءاً من رد الفعل التلقائي تجاه كل ما نراه أو نُطلب للتفاعل معه. 

 إعادة الاعتبار للمحتوى العميق، عبر دعمه وترويجه، دون أن نضطر دائماً إلى تغليفه بمظهر “تسلية” كي يُقبل. 

 مراجعة دور المنصات الرقمية الكبرى، لا لمنع المحتوى، بل لوضع ضوابط أخلاقية تفرّق بين الانتشار الواسع والتأثير المستحق.
أخيراً، أن نكون أبناء هذا العصر لا يعني أن نفقد صوتنا فيه. ما زال بمقدورنا أن نختار، أن ننتبه، أن نرفض أن يُعاد تشكيل وعينا من الخارج. كل ترند لا يجعلنا نفكر هو فرصة ضائعة. فلنكن أكثر وعياً، لا لنهرب من السطح، بل لننزل تحته قليلاً، حيث المعنى، والحقيقة، وربما… أنفسنا.

@جميع الحقوق محفوظة