لَا أَنَا 🍂

 الكاتب عماد الاعور


أَنَا نَفْخَةٌ مِّن نُورِ اللهِ، سِرٌّ إِلَهِيٌّ أُلْقِيَ فِي ظُلُمَاتِ الْمَادَّةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ. أَنَا الرُّوحُ الَّتِي وُلِدَتْ مِنْ أَمْرِ اللهِ، تَسِيرُ فِي رِحْلَةِ الْعَوْدَةِ إِلَى أَصْلِهَا النَّقِيِّ، تَتَقَلَّبُ بَيْنَ كَثَافَةِ الْأَرْضِ وَخِفَّةِ السَّمَاءِ، بَيْنَ أَلَمِ التَّجْرِبَةِ وَلَذَّةِ الْفَهْمِ. لَسْتُ كِيَانًا مَحْدُودًا بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، بَلْ صَدًى أَزَلِيٍّ يَتَرَدَّدُ فِي أُفُقِ الْوُجُودِ، أَعِيشُ لَحْظَةَ الْتِقَاءِ الْفَنَاءِ بِالْبَقَاءِ.
أَنَا الْعَابِرُ فِي مَجْرَى الزَّمَنِ، أَرْتَدِي ثَوْبَ الْجَسَدِ لِيُخْفِيَ عَنِّي سِرِّي، وَأَحْمِلُ دَاخِلِي شُعْلَةً لَا تَنْطَفِئُ مَهْمَا اشْتَدَّتْ ظُلُمَاتُ الْحَيَاةِ. فِي كُلِّ خُطْوَةٍ أَخْتَبِرُ الْمَعْنَى، وَفِي كُلِّ تَجْرِبَةٍ أَكْتَشِفُ أَنَّنِي لَسْتُ سِوَى مِرْآةٍ تَعْكِسُ نُورَ الْحَقِّ، وَصَوْتٍ هَامِسٍ يُرَدِّدُ: “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.”
أَنَا صُورَةٌ تُجَسِّدُ حِكْمَةَ الْخَلْقِ، نُقْطَةٌ فِي بَحْرٍ لَا نِهَائِيٍّ، لَكِنَّنِي فِي ذَاتِي عَالَمٌ كَامِلٌ. فِي دَاخِلِي صِرَاعٌ بَيْنَ التُّرَابِ الَّذِي يُثَقِّلُنِي وَالسَّمَاءِ الَّتِي تُنَادِينِي، بَيْنَ الظَّاهِرِ الَّذِي أَعِيشُهُ وَالْبَاطِنِ الَّذِي يُغَذِّينِي. أَبْحَثُ عَنْ اِنْسِجَامٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَالَمَيْنِ، عَنْ عَوْدَةٍ إِلَى وَحْدَةِ الْأَصْلِ، حَيْثُ أَكُونُ كَمَا أَرَادَ اللهُ لِي أَنْ أَكُونَ: نُورًا يَسْعَى بَيْنَ ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ.
أَنَا دَرْسٌ فِي كِتَابِ الْحَيَاةِ، كَلِمَةٌ أُضِيفَتْ إِلَى قَصِيدَةِ الْخَلْقِ الْكُبْرَى. قَدْ أَكُونُ صَوْتًا مَسْمُوعًا أَوْ هَمْسًا خَافِتًا، لَكِنَّنِي أَتْرُكُ أَثَرًا مُتواضِعاً فِي صَفَحَاتِ الزَّمَنِ، لِأَنَّ وُجُودِي لَيْسَ مُجَرَّدَ عُبُورٍ، بَلْ رِسَالَةٌ مِنَ الْحَقِّ تَتَجَلَّى فِي تَفَاصِيلِ الْعُبُورِ ذَاتِهِ.
أَنَا الْجِسْرُ بَيْنَ عَالَمَيْنِ، بَيْنَ التُّرَابِ وَالسَّمَاءِ، بَيْنَ الْمَادَّةِ وَالرُّوحِ. فِي صَمْتِي أَسْمَعُ أَصْدَاءَ الْكَوْنِ، وَفِي تَأَمُّلِي أَرَى الْحِكْمَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَنَا السَّائِرُ عَلَى طَرِيقِ التَّذَكُّرِ، حَيْثُ كُلُّ تَجْرِبَةٍ هِيَ نَافِذَةٌ تُفْتَحُ لِي رُؤْيَةٌ جَدِيدَةٌ، وَكُلُّ أَلَمٍ هُوَ بَابٌ إِلَى الْفَهْمِ، وَكُلُّ فَرَحٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ أَقْرَبُ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي.
مَنْ أَنَا؟ أَنَا الْحَنِينُ الَّذِي يَسْكُنُ الْقَلْبَ، الدَّاعِي الَّذِي لَا يَكُفُّ عَنْ النِّدَاءِ: “إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ.” أَنَا الْعَابِرُ الَّذِي يُدْرِكُ أَنَّ عُبُورَهُ لَيْسَ سِوَى طَرِيقِ الْعَوْدَةِ إِلَى النُّورِ الْأَوَّلِ. أَنَا نُقْطَةٌ صَغِيرَةٌ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ، وَلَكِنَّهَا تَحْمِلُ سِرَّهُ، وَتُرَدِّدُ مَعَ كُلِّ ذَرَّةٍ فِيهِ: “سُبْحَانَكَ، مَا أَعْظَمَكَ وَمَا أَرْحَمَكَ!”
مَا أَنَا إِلَّا لَا أَنَا.

@جميع الحقوق محفوظة