الكاتبة الدكتورة
لور عبد الخالق الاعور
رئيسة لجنة الادب الرقمي في الرابطة العالمية للدفاع عن اللغة العربية
عضو هيئة تأسيسية في الرابطة العالمية للدفاع عو اللغة العربي
مدرّب دولي معتمد رسميًا من البورد الأوروبي للتدريب وإعداد القادة
"عَرَفْتُ رَبِّي فَعَرَّفْتُ نَفْسِي، وَعَرَفْتُ نَفْسِي فَعَرَّفْتُ رَبِّي". كلمتان تُشرعان أبوابَ الحكمة، وتكشفان أنَّ الطريقَ إلى الله يمرُّ عبرَ أعماقِنا.
فليسَتْ معرفةُ الرّبِّ صعودًا إلى سحابٍ بعيد، بل هبوطًا إلى أغوارِ الذات، حيثُ يَتَجلَّى السرُّ الأكبر: كلّما ازددتَ اقترابًا من حقيقتك، ازدادَ اللهُ وضوحًا في مرآةِ روحك.
لا شكّ أننا نتساءل وتتساءلون لماذا هاتانِ المعرفتانِ وجهانِ لعملةٍ واحدة؟
هما كذلك لأنَّ مَنْ عَرَفَ ربَّهُ أيقَنَ أنَّهُ لَيسَ مِلْكَ نَفْسِه، فَتَحرَّر من أوهامِ التِّكْبُرِ والاستغناء. كذلك مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ رأى فقرَهُ وضعفَهُ، فَتَدَلَّى بِحَبْلِ "يا الله!" كالمُشتاقِ إلى ينبوعِ القُوَّة.
وكما قال الجنيد: "مَعْرِفَةُ النَّفْسِ نِهَايَةُ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ"، لأنَّك إذا رأيتَ عَجْزَكَ، رأيتَ قُدْرَتَهُ، وإذا أدركتَ حَاجَتَكَ، أدركتَ غِنَاهُ.
ويلحّ سؤال آخر، كيفَ تُضيءُ هذهِ الحكمةُ دربَ الواقع؟ في صَخَبِ الحياةِ الماديّة، وعندما تُلهيكَ المادّياتُ عن جوهرِك، تذكَّر أنّ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ تُعيدُكَ إلى البَسَاطة، ولا تطلبْ من الدنيا إلّا ما يُبقيكَ على صِلَةٍ بِربِّك.
فالسَّعَادَةُ ليست في امتلاكِ العالم، بل في اكتشافِك أنَّ اللهَ يَكفيكَ.
أمّا في آلامِ الوجودِ وأسئلتِه الصَّعبة، فإنّ المعرفةُ الحقيقيّةُ تُعلِّمُكَ أنَّ كلَّ وجعٍ هو رسالةٌ من ربٍّ حكيم.
إذا عرفتَ نفسك — ضعفَها وحاجتَها — عرفتَ أنَّ الألمَ ليس عقابًا، بل نداءٌ لترى يدَ اللهِ تمسحُ دمعةَ قلبك وتُعيدُ بناءَك.
ولا تنسَ ذلك في علاقاتِك البشريّة، فمَنْ عرفَ ربَّهُ عرفَ أنَّ النَّاسَ مرايا تُريكَ جمالَ الخالقِ في خلقه.
ومَنْ عرفَ نفسَهُ رأى فيها نقصًا، فَسامَحَ نقصَ الآخرين.
الحُبُّ حينئذٍ يصيرُ عبادةً، والغفرانُ يصيرُ شكرًا.
وعنها في الـعمل والمسؤولياتِ، إذا عرفتَ أنَّ رزقَكَ بيدِ الله، لم تخفْ من فشلٍ. وإذا عرفتَ نفسَكَ — مواهبَكَ وحُدودَك — لم تَطمَحْ إلى ما لا يُناسبُك، بل أتقنتَ ما وُكِّلَ إليكَ وكأنَّ اللهَ يراكَ.
وأخيرًا، رحلةُ العودةِ إلى الذّاتِ رحلةٌ إلى الله، هذهِ الحكمةُ ليست كلامًا للتعاليقِ الذهبيّة، بل بوصلةٌ لحياتِنا:
في وحدتك ابحثْ عن ربِّكَ في صمتِ قلبك، فهو أقربُ إليك من نفسك.
وحين تَضِيقُ بكَ الدّنيا اقرأْ رسائلَ اللهِ في آياتِ نفسك: "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ".
وفي نجاحك أو سقوطك تذكَّر أنَّ المعركةَ الحقيقيةَ هي معركةٌ بين "أنت" و"أنت"، واللهُ ينتظرُك عندَ نهايةِ كلِّ حاجَةٍ لتقولَ: "حَسْبِيَ الله".
إنّ المعرفةُ الفلسفيّةُ ليست هدفًا، بل هي جسرٌ تمشي عليه نحوَ الحياةِ بحُبٍّ أكبرَ، وصبرٍ أعمقَ، وقلبٍ يرى اللهَ في كلِّ شيء.
فمَنْ عرفَ نفسَهُ حقًّا، عرفَ أنَّها ليست إلّا وَمَضَةً من نورِ ربٍّ عظيم، ومَنْ عرفَ ربَّهُ أدركَ أنَّ الحقيقةَ كلَّ الحقيقةِ هي أنَّنا — كما قال ابن عطاء الله —"مَشْهُورٌ فِي وُجُودِهِ، مَخْبُورٌ فِي شُهُودِهِ".
@جميع الحقوق محفوظة