الأمير السيد عبدالله التنوخي (ق.س)- إشاعات وروايات

الشيخ مكرم المصري - 29- 4- 2023


بسم الله الرحيم الرحيم والحمدلله ربَّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وعلى رسوله الهادي الأمين .

أما بعد:

لأ أريد التهجم على أحد ولا ان أنتقد أو أجرح ببعض أساتذة التاريخ، ولكن هناك أمورا ثابتة في التاريخ لا يمكنني السكوت عليها. وخاصةً الإشاعات التاريخية التي تطال رمزاً من رموز التوحيد في الجزيرة والمرجع الأرفع في العقيدة.

سمعت أن أحد الأشخاص يقول إنه إكتشف معلومات تاريخية جديدة عن سيرة حياة الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق.س)، مدعياً أن ولده المرحوم الأمير العريس الشاب الورع التقي النقي عبد الخالق عبدالله التنوخي ولقبه سيف الدين قدّ توفي في مرض عن عمر ستة عشر عاما، وليس برفسة حصان يوم عرسه عن عمر اثنين وعشرين عاما كما هو معروف، وأن الأمير (ق.س) لم يرتد العمامة الخضراء. ولأن التاريخ لا يكتب الاَّ بالعودة للأصول الثابتة والمصادر المباشرة، عدت بهذه الدراسة إلى عددّ من المصادر والمراجع الأساسية منها للشيخ المؤرخ حمزة إبن سباط تلميذ الأمير السيّد (ق.س)، وليوسف إبراهيم يزبك في كتابه وليٌّ من لبنان سيرة العارف باللهِ الأمير السيّد جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله سرّه. والشيخ ابو صالح فرحان العريضي في كتابه مناقب الاعيان الجزء الأول ص ٣٢- ٣٩ سيرة الأمير سيف الدين عبدالخالق بن عبدالله التنوخي. 

أولا": من هو الأمير السيد (ق.س)؟

ولد الأمير السيد سنة ١٣٩٢م في عبية ونشا فيها وتوفي سنة ١٤٧٩م. كان الأمير (ق.س) علما من اعلام الموحدين، طبقت شهرته الافاق بالورع والتقوى والزهد والإصلاح، فهو ولي من أولياء الله الطاهرين المعدودين ومصدر خصب من مصادر الفقه والتشريع وعنوانا كاملا لأسمى صفات الخلق التوحيدي.

يقول تلميذه الشيخ حمزة بن شهاب الدين احمد بن سباط في كتابه تاريخ إبن سباط، أنه الشيخ العامل، العالم، الورع، التقي المفيد، الزاهد، العابد، المخلص، الرباني، المحقق، الفاضل، اللبيب، السيد الكبير، أمير الأمراء النجباء، جمال الدين والدنيا عبدالله بن سليمان بن محمد بن يوسف بن خضر بن تنوخ بن قحطان… بن آدم عليه السلام.

تزوج مرتين، زوجته الأولى ابنة عمه الأمير ناصر الدين الحسين فلم تطل اقامتها عنده ولم ينجب منها وزوجته الثانية ريمه ابنة الأمير شهاب الدين احمد، فولدت له عبدالخالق، وتقي الدين إبراهيم وعددا من البنات.

توفي والده الأمير علم الدين سليمان بن بدر الدين محمد بن صلاح الدين عندما كانت زوجته في مقتبل العمر فربت أولادها تربية حسنة واشتهر منهم بالذكاء والتدين الامير عبدالله، لقب بجمال الدين ولقب في دمشق بالسيد ولبس العمامة الخضراء، امّا تلميذه الشيخ حمزة ابن سباط فقد لقبه بجمال الدين والدنيا، ينسب الأمير عبدالله الى اشرف القبائل العربية بني تنوخ المناذرة اللخميين الحافل تاريخهم بالمجد والكرامة والعزّة.

ما يهمني هو أن أذكر بعض المعلومات عن مسقط راس الأمير السيد، وهي بلدة عبيه التي تقع في اسفل جبلها المسمى "المطير" وهو من اجمل المواقع في لبنان على الاطلاق، يشرف على ساحل البحر الأبيض المتوسط من صيدا الى عكا ومن بيروت الى طرابلس، وقد اتخذها التنوخيون موقعاً استراتيجياً لرد غارات الفرنجة (الصليبين) عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

بنوا فيها الصروح الفخمة ومن اشهرها بالفخامة والمتانة، القصر الكبير الذي شيده الأمير شرف الدين موسى البحتري التنوخي سنة ١٤٦٦م والمنقوش على بلاطة فوق رتاجه هذان البيتان :

قسما بما ضمت اباطح مكةٍ                            ومنى وآيات الكتاب المنزلِ

 ما شيدتها طمع الخلود                          وانما هي زينة الدنيا لأهل المنزلِ

 بلغت بلدة عبيه ذروة مجدها وعزها وتألق نجم سعودها بالإمامة التوحيدية التي دامت لأكثر من ثلاثة ارباع القرن، يرعاها صاحبها وامامها الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي.

وللذين لا يعرفون قصة الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي فسوف اذكرهم بان الأمير (ق) كان دياناً ورعاً، حكيما، عاقلاً، قاد جماعته ونمّى بهم الصفات الحميدة المبنية على أسس ومزايا ومناقب الدين الحنيف، دين التوحيد لنكسب منه التواضع، التسامح، محبة الاخرين واحترامهم والذود عنهم والحفاظ على اثمن ما نملك الا وهو سدق اللسان وحفظ الاخوان.


ثانيا": تسلمه دينه

في سيرة الشيخ زهر الدين بحسب مجلة العمامة، قصد الامير السيد عبدالله التنوخي (ق.س)، الشيخ زهرالدين قبل بلوغه سن الرشد طالباً منه الاتصال بمذهب التوحيد فقال له الشيخ يلزمك بعض الوقت فتدخل الحاضرون وقالوا للشيخ زهر الدين هذا الشاب حديث السن وعلى وجهه سمات الصالحين، فقال لهم الشيخ زهر الدين عليه أن يأتي أربعين مرة. فكان قصد الشيخ زهر الدين أن يأتي كل ليلة جمعة. كان الأمير يضع قصفة ريحان كَعلامة في كل مرة يأتي بها حتى أنجز الامتحان في أقل من شهر وعند إنتهاء الشهر جاء الأمير السيد الى بيت الشيخ ابو مرعي زهر الدين فلم يجده وأخبروه إنه في بستانه يحرث الأرض هو وإبنه فلحق بهم الى البستان سلم على الشيخ وطلب صفو خاطره ومن ثم قال له: لقد انتهى الشهر واطلب صفو خاطركم وأريد منكم ان تسمعوا لما حفظت فقال لإبنه اذهب معه يا ولدي واستمع اليه ذهب ولده واستفتح الأمير السيد وبدأ بالقراءة غيباً وعندما ينتهي من صورة او رسالة يبدأ بالأخرى فتعجب الولد من ذكائه واستيعابه ثم نادى والده فحضر الشيخ أبو مرعي فقال لوالده أكمل لعبد الله ما حفظه لأن ما أحفظه قد تلاه، إندهش الشيخ زهر الدين وقال للأمير عبد الله بأن يكمل فتابع عبد الله تلاوته والشيخ زهر الدين يصغي مندهشاً مسروراً حتى أكمل عبد الله تلاوة المعلوم الشريف.

وسمع ما سمعه من الأمير السيد فأخذه الذهول.

وقد كان للأمير ما أراد على يدّ الشيخ اذ اوصله الشيخ الى مبتغاه بعد ان امتحنه وتأكد من حسن سيرته ونقاء سريرته ويقال انه تسلم الكتاب المعلوم وختمه في شهر واحد.

ويقال ان الشيخ زهر الدين بعد ان رأى فيه ما يوافق الامامة ألبسه العمامة وقال له هذه تليق بك وانت احق بها مني ودعا أُمراء إمارة الغرب وأكابرها وأهالي المتن والشوف والجرد وغيرهم الى إجتماع عام يُعقد في عبيه وفي هذا الإجتماع وبعد حضور الجميع وقف الشيخ زهر الدين ريدان وفاجأ الحاضرين بتنازله عن رئاسة المرجعية الروحية لطائفة الموحدين، إلى الأمير السيد عبد الله التنوخي لحسن تديّنه وصدقه وزهده بالدنيا وحسن مسلكه التوحيدي وورعه وحبه لله تعالى، كذلك ألبسه عباءة المشيخة وعمم رأسه بعمامة مكولسة وكان ذلك اليوم يوماً تاريخياً في تاريخ الرئاسة الروحية للطائفة.


ثالثا": تدينه

بالرغم من أن الأمير السيد (ق) كان من المقربين إلى السلطة وكان باستطاعته تسلمها إلاَّ أنه آثر الدين على الدنيا وانصرف يعمل لآخرته الباقية مهملاً دنياه الفانية. ويقول فيه ايضاً الشيخ المؤرخ ابن سباط:

"لم يكن الأمير يخالط أقرباءه لعلمه أن أموالهم لم تكن حلالاً محضاً، حتى أنه لم يرضَ أن يضيء عليه مصباحاً فيه زيت من رزقهم وكان يطوف البلاد ويزور رجال الدين أينما كانوا وكان يحب مطالعة الكتب حتى قيل إن مكتبته حوت ثلاثمائة وأربعين مجلداً ونهى عن شرب الخمر والمسكرات فتاب الناس على يده وكانت نواهيه وإرشاداته تُبث بواسطة تلاميذه في جميع القرى وكان الناس يتوافدون عليه من كل مكان فيدرسون عليه ويتقاضون لديه. ثم أمر تلاميذه في القرى أن يأمروا الناس بالمعروف وينهوهم عن المنكر على غرار خطته. 

رابعا": ارتداؤه للعمامة الخضراء

بحسب المصادر التاريخية في العصر المملوكي أي العصر الذي عاش فيه الأمير السيد (ق.س)، لم يكن من شأن الأشراف منذ عهد النبوة الامتيازُ بشعار معين، أو لباس خاص، اكتفاءً في الدلالة عليهم بالعمل الصالح، والدعوة إلى الله، وتمثيلهم لمكارم الأخلاق، وتمسكهم بالتعارف والتعاون والعمل والإنتاج. وفي فترة متأخرة في عصور العباسيين والمماليك لزم الأشراف من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم العِمامة الخضراء، وكانوا قديماً يُعلقون قطعة خضراء من القُماش في العمامة، حتى أضحت العمامة الخضراء في فترات متأخرة مخصصة لعالم الأزهر في الحقبة المملوكية والعثمانية. 

عندما ذهب الأمير السيد الى دمشق صدف في أحد المرات أن تعرف على أحد المشايخ من خارج الطائقة التوحيدية، أتحفظ عن ذكر اسمه وطائفته، فكان ذلك الشيخ كل ما صادف الأمير السيد يسأله ما علاقته بالإسلام، ويقول له ان طائفة الموحدين زنادقة ولماذا يتردد دائما الى الأزهر الشريف الخ.... ولكن في أخر فترة أصبح الشيخ يسأله كيف يصلي الموحدون على الميت فأجابه بحسب الشرع والإسلام فأخذ يضحك طالباً من الأمير (ق.س) أن يصلي عليه ليتأكد إذا كان حقيقة يؤمن بالإسلام، تردّد الامير أكثر من مرّة بحجة أنه لا يصلي على انسان حيّ، ولكن بعد إصراره وافق لكن بشرط وهو أنه لن يصلي عليه الا بوجود شهود وهم ممثل عن شيخ الأزهر ومفتي دمشق للطائفة السنية وللطائفة الشيعية العلوية وشيخ الاسلام، وكان ذلك.

طلب الشيخ من الأمير السيد (ق.س) أن يبدأ بالصلاة ولكن رفض لأنه كان علم أنه لا يصلي الا على ميت فقال له إبدأ أنت، وكان له ما يريد صلى الشيخ عليه ولم يحصل شيء، عندما أتى دور الأمير السيد (ق.س) وبدأ الصلاة وعند تكبيره ألله وأكبر حصل تشقق بقبة الجامع وما أن أنهى صلاته حتى لفظ الشيخ أنفاسه الأخيرة، فما كان من شيخ الإسلام وشيخ عشيرة عائلة الحمزاوي الدمشقية وهي عائلة منسوبة لأهل البيت وعائلة ذات مكانة دينية في دمشق الّا أن ألبسوا العمامة الخضراء على رأس الأمير السيد (ق.س) تقديراً لمرتبته الدينية. 

خامسا": عدله وفضله

يقول أيضا الشيخ حمزة ابن سباط

ومما بلغ إليه أن أهل الذمة من النصارى واليهود كانوا يأتون على خبره ويحضرون بين يديه في اختلاف بينهم في أمر الدنيا، يسمعون له ويمتثلون بما يحكم به ويرجعون راضين بقضائه. لأنه كان إذا حضرت الأخصام عنده يبتدئ بالمواعظ عليهم، ثم يأخذ العهد عليهم في استماع كلامه ثم يتلطف بينهم بما يراه فيجيبون إلى حكمه من غير إكراه ولا إجبار. وكان مجردا من الميل إلى جهة أحد الأخصام ولو كان أعز الناس عنده وبهذا ارتضته الناس من الخاص والعام قريبا وبعيداً. وكانت الأخصام تختصم في أطراف المعاملة (الولاية أو المنطقة) ويعجز ولاة تلك الجهة عن الفصل بينهم فيقول الخصم لصاحبه:" بيننا الأمير جمال الدين التنوخي" فإذا قدما عليه وشرحا قصتهما له يقول لهما :" قد جئتماني من أقصى البلاد فوجب علينا تصريح ما نقدر عليه لكما من الحق ثم يعظهما المواعظ اللطيفة ويحكم بينهما بما يراه شرعا أو مصالحة فيرجعان راضيين مسلمين شاكرين متصادقين بعد العداوة. وكانت تأتيه الأخصام من نواحي صفد إلى أطراف حلب إلى حدود طرابلس إلى شوف بعلبك إلى أطراف دمشق. ولا يعلم من أين هم ولا من أي بلد قدموا عليه ويرجع كل منهم راضيا بحكمه مثنيا عليه بكل جميل". 

سادسا": إصلاحاته

عاش الأمير السيد (ق) في القرن الخامس عشر وكان هذا العهد عهد جمود وتأخر ومقاومة لكل تجديد ومجدد. ولم يكن هذا ليثبت عزيمة الأمير الوثابة ويجعله يتراجع عما يدعو إليه ولما لم يستطع إدخال إصلاحاته في الغرب رحل إلى دمشق وقضى فيها عدة سنوات. لكن أهل لبنان ندموا على ما فعلوه اتجاهه وخاصةً بعد أن إنتشر صيته وخاصةً بعد أن البسوه في دمشق أخر عمامة خضراء فكتبوا إليه وطلبوا منه العودة إلى بلاده. فأرسل لهم جواباً تضمن مطالبه للعودة ولما تلي جوابه وسمعه المشايخ وقفوا إجلالاً له، ولا زال الموحدون حتى اليوم يقفون عند البدء بقراءة شروحاته في المجالس الدينية.

شرع الأمير (ق.س)، قوانين الأحوال الشخصية المبنيّة على دين التوحيد، على الحكمة والعقل بحيث ساوى الامرأة بالرجل في جميع مرافق الحياة ولذلك منع تعدد الزوجات ولما لم ينصع لهذا القرار أحد الموحدين من قرية المغار في فلسطين، بالرغم من المحاولات لثنيه عن الاستمرار في زواجه من امرأتين فقرّر أن يقوم هو بنفسه بزيارة قرية المغار وشاءت الأقدار ان يمرّ بطريق جبل الجرمق ماراً بمنطقة الزابود الشامخ وبالقرب من بركة الزابود وبحسب الرواية كان قد استراح بظل شجرة سنديان عامرة وافرة الظل والظلال، منتصبة شامخة شموخ من جلس مع رفاقه تحت اغصانها. بعد ان بارك هذه الشجرة وتلك الأرض اكمل طريقه الى منطقة راس العقبة ومنها نزل الى كعب العقبة مارا بارض عين الأسد التي لم تكن قائمة في تلك الفترة الزمنية ومنها الى مفرق عين الأسد المغار وحين وصل الى مشارف قرية المغار وسمع بقدومه ذلك الرجل الذي رفض الانصياع والانقياد لتشريعه وتعاليمه فعرد بعد ان طلق احدى زوجاته ومنذ ذلك الزمن سمي اتباعه ال عرايدة من كلمة عرد التي تعني ترك بسرعة قبل ان يصل الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي، الذي علمنا القيم الإنسانية والاخلاقيات والقوانين التي استمرت لأكثر من خمس مئة عام بمعنى بان الأمير السيد كان اول من أسس الديموقراطية الحقيقية المبنية على احترام وقبول الاخر ومساواة الذكر بالأنثى، الفقير بالغني والقوي بالضعيف. 

سابعا": وفاة ابنه

توفي أولاد الأمير الثلاثة عبد الخالق الأول ومحمد وفاطمة قبل ولادة ابنه الرابع عبد الخالق الثاني سنة ١٤٤٨. كان عبد الخالق الثاني نجيباً ونابغاً ورعاً تقيّاً. أخذ عن والده العلم والورع والتقوى. وقد ظهر نبوغه في سن السابعة إذ أخذ ينهل من منهل أبيه العذب وينطبع بطابعه ويتسمّ بصفاته. يقول يوسف إبراهيم يزبك في كتابه وليٌّ من لبنان، كانت مشيئة الله التي قضت بوفاة أبناء الأمير الثلاثة الأوَل من صغرهم، أبت إلا أن تواصل امتحانه فقضت بوفاة عبد الخالق يوم عرسه. ففي يوم العرس وبعد أن تم الفرح وعُقدت الولائم سمع عبد الخالق صهيل الفرس فذهب إليها فرمحته إحداها رمحة قضت على حياته وعلم الأمير بالخبر وكتمه إلى أن انتهت الأفراح وعندها قال للوفود المحتشدة:" هاتوا فقيدكم". فيا لها من ساعة انقلبت الأفراح فيها إلى أتراح وانتقلت أخبار هذا المصاب الأليم إلى سائر الأنحاء فاحتشد المعزّون وازدحمت الناس ترثيه وتعبر عن شدة الألم وفداحة الخسارة. وكانت وفاة الأمير سيف الدين عبد الخالق الثاني سنة ١٤٧١ وقد وقف الأمير أمام الجموع المحتشدة وألقى خطبة بليغة تعتبر من ابلغ الخطب.

 ثامنا": خطبته يوم وفاة نجله عبدالخالق

أيها الناس ، يطوي العمر الجديدان ولا فوت من الموت لكم عند الله من الخير ما تكنزون ، ومن الشرّ ما تكسبون، ونحن وأنتم في قبضة المالك، وهو المنجي برحمته من المهالك، فعليكم بقبول أوامره طاعةً وصبراً، والإنابة الى رحمته سرّاً وجهراً، فطوبي لمن قبل أوامر الله بالطاعة، وجعل مدى الحياة ساعة، وركب جواد القناعة، وقيّد نفسه بقيد الوراعة، وجعل من حق الموت أمانة والرضى والتسليم الوداعة.

أيجوز أن يعترض العبد على ربه ما أبدع، أو يغضب من قبضه ما أودع، أو يعصي قوله في ما أنبأ به وهو يسمع، أو يظن أن حكم الله وقدره لهما مرد أو مدفع.

أيها الناظرون إليّ، أتظنون أن صبري على فقد ولدي الصالح جهالة، أو ترك اعتراضي على القضاء فيه ضلالة؟ أم اني نسيت منه علمه وحزمه وحلمه وافضاله، ورفقه وصدقه وصبره واحتماله؟ كلا.... ولكن الطاعة مطية من اتقى، والتسليم منارة من ارتقى.

أيّها الناس، ان الله خلقكم واسبغ عليكم نعمه وعطاياه، وفوض الحق عليكم وقبله منكم وارتضاه، ونهاكم عن الباطل وحذركم من سخطه فويل لمن عصاه... انتم كسمكة خلقها بارادته وأعطاها سبعة بحار تغوص وتعوم وترزق ولا يحيط بها قرار. خلقكم من لا شيء وغمركم بالرحمة ، ونقلكم من ضيق الدنيا الى فسيح النعمة.

أما ترضون بالرؤوف المليء شفقة ورأفة، القادر القاهر المعطي المانع الحاكم بالحق والنصفة، اتظنون أنكم اذا اعترضتم عليه في حكمه تبلغون هواكم واذا اهملتم طاعته تخلصون من بلاكم.

أيها الناس انتم كطير مسجون في قفص الإرادة، يتحرك في طلب هوائه فلا يجد مطاراً ولا فراراً ولا زيادة.

أيها الناس ، قد بلغ العصر آخره، وحكم فيه خالقه وقادره، وعما قليل يظهر الجزاء فيعرف العامل عمله باوله وآخره، ولا يضيع مثقال ذرة بين يدي ناهيه وآمره، فيا فوز المتقين.

 تاسعا": مؤلفاته

كانت للأمير السيد (ق.س) مكتبة كبيرة احتوت عددا كبيرا من كتب الشرع والدين والتاريخ والشعر واللغة والأدب وقصص الأنبياء. وقد اتصف بكثرة القراءة وصحة الاستيعاب وقوة الحفظ، إذ كان بوسعه قراءة ما يحفظه قراءة معكوسة أي مبتدئا بالختام وراجعا بالكلام إلى الوراء. وللأمير مؤلفات كثيرة وهامة وهي على نوعيْن: مؤلفات دينية توحيدية ومؤلفات عامة. ومن مؤلفاته العامة معجم للغة العربية أسماه "اللغة العرباء"، وله كتاب في السيرة النبوية اسمه" سياسة الأخيار في شرح كمالات النبي المختار." 

عاشرا": وفاة الأمير السيد(ق.س)

توفي قدس الله سره في النصف الثاني من شهر أيلول سنة ١٤٧٩ وقد وصف تلميذه الشيخ أبو علي مرعي زهر الدين ساعاته الأخيرة وجنازته فقال :" ولبث على فراشه على الهيئة الجليلة وحسن الصورة ووضع كفه تحت خده إلى أن نفذ قضاء الحكيم والرب الرحيم وبادر إليه تلاميذه والإخوان تناديه ويقبلون أياديه ويتذكرون إنعامه وجاءت أم الناس "زوجته" تصيح : يا معلم الخير لمن أوصيت بي فلا والد ولا ولد ولا معتمد ولا سند، وهاتف يقول لله الواحد الأحد الفرد الصمد ثم هي تقول عليه توكلت وبه في مصابي أستعين وأرجو به حسن المآب وهو نعم المعين.

ويقول شيخ المؤرخين الموحدين حمزة ابن سباط إن الذين وفدوا إلى عبيه لتشييع جثمان السيد الإمام لا يقلون عن سبعة آلاف رجل، وألقيت المراثي والخطب التي بلغت اثني عشر كراساً.


* المصادر والمراجع:

١- حمزة ابن سباط، تاريخ آبن سباط، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، الطبعة الاولى، لبنان، ١٤١٣ه/١٩٩٣م.

٢-صالح بن يحي، تاريخ بيروت وهو أخبار السلف من ذرية بحتر بن علي أمير الغرب وبيروت، دار المشرق، مؤسسة التراث الدرزي، لبنان، طبعة عام ٢٠١٥. 

٣- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الاعيان، الجزء الاول، منشورات مدرسة الإشراق، الطبعة الأولى، عاليه، ١٩٩٤.

٤- يوسف إبراهيم يزبك، ولي من لبنان سيرة العارف بالله الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي قدّس الله سرّه، الطبعة الثالثة، لبنان، ١٩٦٠.

٥- حافظ أبو مصلح، تاريخ الدروز، دار الفنون، الطبعة الثالثة، لبنان، ٢٠٠٦.

٦- سليم حسن هشي، دروز بيروت، منشورات لحد خاطر، لبنان،١٩٨٥.

٧- الدكتورة مفيدة عابد، التنوخيون في لبنان، مطابع دويك كفرنبرخ، لبنان، ٢٠٠١.

٨- عجاج نويهض، سيرة الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي والشيخ محمد ابي هلال المعروف بالشيخ الفاضل، الطبعة الاولى، لبنان، ١٩٧٥.

٩- فؤاد ابو زكي، الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي سيرته- أدابه، لبنان، د.ت.


* صحف ومجالات

١- مجلة الضحى، سيرة الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي، مشيخة العقل، اللجنة الثقافية، ٢٠١٧.

٢- مجلة العمامة، سيرة العارف بالله الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخيي (ق.س)، ٢٠١٥.