
الدكتورة لور عبد الخالق الاعور
رئيسة لجنة الأدب الرقمي
في الرابطة العالمية للدفاع عن اللغة العربية
نحن حقاً، في كل لحظاتنا، نقف بين استنباطٍ واستقراء، وكأنما هما جناحا الوعي اللذان نطير بهما في سماء وجودنا.
أما الاستقراء فهو تلك الخطوات البطيئة الصبورة على أرض التجربة:
نلمس، نجرب، نتعثر، نقف، نسأل: كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ نلتقط تفاصيل الأيام كما تُلتقط حبات المطر المتناثرة،
نجمعها في جعبة الذاكرة، شعوراً شعوراً، وموقفاً موقفاً.
هو دفتر الملاحظات الضخم لحياتنا:
أول وجع قلب، أول نجاح صغير، طعم القهوة في صباح حزين، دفء يد في ليلة باردة.
نعيش اللحظة ثم نعيش أخرى، وندّخر هذه الخبرات كما يدّخر النحل الرحيق، قطرة قطرة.
ثم يأتي دور الاستنباط، تلك القفزة الذهنية الجميلة، تلك اللحظة التي تتألق فيها البصيرة.
ننظر إلى ذلك الكنز المتراكم من الخبرات المتناثرة، فنرى فجأة نمطاً خفيًاً، حكمةً عامة، قانوناً للحياة.
نربط بين شتات الأحداث فنجد معنى.
من ألم الفراق نستنبط درساً عن التعلق والحرية، ومن فرح اللقاء نستنبط معنى العطاء.
نصنع من التفاصيل قصة، ومن القصص فلسفةً نعيش بها.
وهذه هي الروح الإنسانية في أبهى صورها: آلة استقراء لا تملّ من جمع التجارب، وعقل استنباطي لا يكفّ عن نسج المعاني.
نحن لا نعيش لنأكل ونشرب فقط، بل لنفهم . لا نكتفي بأن "نُحْبَط"، بل نسأل: "ماذا يعني هذا الإحباط لي؟ وماذا يقول عنّي؟".
تضيف هذه الثنائية عمقاً مذهلاً لوجودنا، فهي تجعل من الفشل مادة خام للحكمة، وليست نهاية الطريق.
وهي تحوّل الفرح العابر إلى منبع للامتنان المستمر. وهي تحفظ توازننا، فبدون الاستقراء (التجربة الحية) تصبح استنباطاتنا تجريدات جافة بعيدة عن الحياة. وبدون الاستنباط (التأمل) تصبح تجاربنا كومةً من الذكريات بلا خيط ناظم يربطها.
إذن، حياتنا هي هذه الحلقة المقدسة، نعيش (استقراء) لندرك (استنباط)، ثم ندرك (استنباط) لنعيش (استقراء) بشكل أعمق.
نصعد بسلم التجربة إلى شرفة الفهم، ثم ننزل بفهمنا الجديد إلى ساحة التجربة لنعيشها برؤية أوضح.
في النهاية، ربما جمال الوجود كلّه يكمن في هذه الديناميكية: أن نكون جامعين ومستنبطين في آنٍ واحد.
أن نكون أطفالاً نتعثر ببراءة في دروب الحياة (استقراء)، وحكماء نجلس تحت شجرة خبراتنا لننسج منها حكاية نرويها لأنفسنا وللآخرين (استنباط).
هكذا ننسج من خيوط الأيام قماش هويتنا، وهكذا نصنع من ضجيج الأحداث سمفونية فهمنا الخاص للحياة.
@جميع الحقوق محفوظة