الاستعمار المحبب

ايمان ابو شاهين يوسف - 6- 11 -2023

"الاستعمار المحبب". 

 كثيرا ما كنت اسمع ذلك العجوز يكرر هذه الجملة وهو يلاعب ابن ابنته الذي، حينا يطلب منه ان يحمله ليأخذه الى الدكان، او يطلب منه ان يقوم عن المقعد ليجلس مكانه، او يغير قناة التلفزيون الى قناة الصغار لأنه يريد ان يحضر ديزني، او يستبدل صحون الطعام فيأخذ صحن جده ويعطيه صحنه، او يمنعه من الخروج من المنزل قبل ان يعطيه الخرجية، او يمنعه من الدخول الى البيت اذا لم يحضر له السكاكر... والجد يخضع لأوامره بكل طاعة وسرور وهو يقول: هذا هو الاستعمار المحبب! 

أمّا الاستعمار بمعناه الحقيقي، فهو إخضاع جماعة من الناس لحكم اجنبي بالقوّة، ويسمى سكان البلاد الذين يخضعون للاستعمار بالمُسْتَعْمَرين، والأجانب الذين يستعمروهم بالمُسْتَعْمِرين، اما الأرض الواقعة تحت الاحتلال فتسمى البلاد المستَعْمَرَة. 

مصطلح الاستعمار أطلق على السياسة التوسعية التي اتبعتها الدول الأوروبية انطلاقا من نهاية الحرب العالمية الثانية. والاستعمار هو نتيجة لسياسة التوسع الديني والثقافي الذي انتهجته أوروبا من اجل التحكم بمصير الشعوب ونهب خيراتها.

 الاستعمار تاريخيا نوعين: 

الاستعمار القديم: وهو كناية عن حركة استيطانية قامت بها بعض الدول الأوروبية مع بداية القرن السادس عشر نتيجة لانفتاح أوروبا على دول العالم الخارجي المترافق مع حب المغامرة والاستكشاف الذي يعززه البحث عن الثروة عند البعض والتخلص من الاضطهاد الطائفي والسياسي عند البعض الاخر. 

الاستعمار الحديث: وقد ظهر بعد الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك من اجل البحث عن أسواق لتصريف الإنتاج الأوروبي، والوصول الى المواد الأولية المتوفرة في اسيا وافريقيا والسيطرة عليها. إضافة الى استثمار رؤوس الأموال الأوروبية الفائضة لتحقيق ثروات اكبر.

 واستثناء هناك نوع خاص من الاستعمار وهو لإيجاد حلّ لشعب مزنوق في أوروبا متشعب المشاكل والاعداء. وهذا الحل كان على حساب شعب آخر هُجّر من ارضه وشُرّد في بلاد العالم تحت وطأة الفقر والذلّ وضياع الهوية لينعم المستعمر في استيطان ارضه واستغلال ثرواته وانشاء بنيانه على جثث واجساد من تبقى من ذلك الشعب المقهور. 

اما الاهداف السياسية لدول الاستعمار فتتمثل في تحسين مركزها في التنافس على المراكز المتقدمة دوليا وذلك من اجل تحسين دائرة نفوذها في المجتمع الدولي والتحكم بالقرارات الدولية وتوجيهها لصالحها.

 وحتى تتمكن الدول المستَعْمِرة من تحقيق أهدافها لا بدّ لها من زيادة مواردها، وهذا ما يستدعي منها البحث عن موارد خارج حدودها، لهذا عليها القيام بالإجراءات التالية:

 - تمويل بعثات الاستكشاف الجغرافية للبحث عن المناطق الغنية بالموارد الأولية والاستثمار فيها.

 - الاحتلال العسكري المباشر للمناطق الغنية بالموارد الأولية وارسال دفعات من المستوطنين في بعض الأحيان للاستيطان فيها والاستحواذ على المواد الخام من اجل تعزيز الاقتصاد في دول الاستعمار.

 وبعض دول الاستعمار تحاول عادة إعادة تشكيل المنظومة الثقافية في المستعمرات لتصبح اكثر ارتباطا بالدولة المستعمرة فتغير لغتها لتصبح نفس لغة الدولة المستعمِرة، وتحاول ان تغيّر الكثير من ثقافتها التاريخية والجغرافية من اجل القضاء على الذاكرة الجماعية لها لتضليلها واقناعها بكل ما يخدم مصلحة المستعمر.

 المؤسف ان الدول المستعمِرة ومن اجل اشباع نزعة السيطرة والتسلط المتجذرة في فكرها السياسي ووجدانها الفلسفي لقيام دولها، قد اعتمدت قواعد حسابية لا يصلح استعمالها في المعادلات الإنسانية، وقدمت الكثير من إمكاناتها وطاقاتها المادية والعلمية والبشرية من اجل ابدال الحق بالباطل، دون ان تتذكر بان حق الشعوب مهما حاولت انكاره وتشويهه فهو كالماسة التي لوّنت بالفحم الأسود، ما ان يهطل المطر عليها حتى يزول السواد عنها وتعود ماسة ترسل اشعاعها من جديد. 

والشعوب المستعْمَرَة بدورها قدمت الكثير من الخسائر الإنسانية والمادية، فعاشت الظلم، والعذاب، والموت، والذل. وخسرت هويتها، وارضها، وبيوتها وثرواتها، وعانت التشرّد والقلق، والفقر، والضياع، والحسرة.  وأصبحت لاجئة في دول أخرى، محدودة الحقوق والحرية، مقموعة الحلم والطموح. عرضة لان تصبح اداة يتلاعب بها الاستغلاليون ليحققوا المشاريع التي يحلمون بها. 

رغم ذلك فقد كان الزمن هو الحكم وهو الذي انصفهم وعاد الميزان الحسابي الى نصابه، فاندحر المستعمر ورجع أصحاب الحق الى ارضهم وبيوتهم.

 فيا ليت الناس يسمعون ويعون، ليزول الاستعمار والطمع، ويعمل كل شعب للحفاظ على ارضه وعزّته، ويؤمن بالحق والحقيقة، وليصبح الاستعمار كلعب ذاك الطفل مع جدّه ويكون "الاستعمار المحبب".