الأستاذ الشيخ مكرم المصري - 30- 12 -2021
المقدمة
لم تشهد الحضارة الأندلسية، التي امتدت تقريباً من (93 هـ/ 711 م) إلى (897 هـ/ 1492)، أي تطور علمي في مجال العلوم الدقيقة حتى حكم الأمير عبد الرحمن الثاني ( 206 هـ/ 821 م – 238 هـ/ 852 م) الذي كان كما يقول مصدر مغربي متأخر مجهول الاسم، أول من أدخل الجداول الفلكية إلى الأندلس.
فقبل تلك الفترة، كل ما نستطيع أن نتبينه هو بقاء التقليد التنجيمي اللاتيني، وليس لنا إلا أن نفترض أن هذا التقليد قد وجد على الأرجح جنباً إلى جنبٍ مع تقليد عربي في التنجيم الشعبي متعلق بشكل رئيسي بالتنبؤات الطقسية المبنية على نظام الأنواء، وبمسائل الميقات كتحديد القبلة بقصد تثبيت الإتجاه الصحيح تقريباً للمحراب في الجوامع الجديدة.
شهد منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بداية فترة من التمشرق في الثقافة الأندلسية، شجع عليها سواء بالعادة الشائعة بالرحلة إلى المشرق من أجل إكمال تعليم الناشئة من أية أسرة تقدر على ذلك، وكذلك السياسة الثقافية للأمراء الأمويين الذين شجعوا علماء المشرق على توطيد أنفسهم في قرطبة، وبذلوا ما في وسعهم لشراء الكتب الجديدة الصادرة في عواصم المشرق العظيمة.
وقد دخلت الأندلس الإسلامية في منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع للميلاد أول التأثيرات التقنية والعلمية في المشرق، ويمكن التدليل على ذلك بأمثلة عديدة منها وصول الطبيب الحرّاني إلى قرطبة وانتقاله حال ذلك إلى البلاط للعمل طبيباً خاصاً للسلطان عبد الرحمن الثاني.
ويأتي ابن جلجل على ذكر هذا الطبيب وولدين لبعض إخوته هما أحمد وعمر الحراني. ولابد أن معتقدات السحر التعويذي التي يرجع أصلها إلى مصر قد وصلت في تلك الفترة أيضاً، أي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فنحن إزاء فترة الخلافة في قرطبة التي سعت إلى جمع المعارف والمعلومات من كل حدب وصوب بغية مواكبة عصرها، وقد قادت تلك السياسة إلى الطفرة العظيمة إلى الأمام في ميدان العلوم في بلاد الأندلس عقب القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
النتاجات العلمية الأندلسية
نبغ العرب في الأندلس في مجالات عديدة ومن أبرزها الطب، حيث ظهر عدد كبير من الأطباء الأندلسيين ومنهم الطبيب الطليطلي ابن الوافد صاحب كتاب " الأدوية البسيطة " الذي ترجم الى اللاتينية أكثر من أربعين مرة. ومن مشاهير أطباء الجراحة بالأندلس أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي صاحب كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" وقد ترجم الى اللاتينية، وما تزال جامعات إسبانيا وأوروبا تعتمد عليه وتدرس نظرياته.
ظهر في إشبيلية الطبيب مروان بن زهر الإشبيلي وأول عالم بالطفيليات وظهرت طبقة من النساء الطبيبات منهن أخت الحفيد بن زهر الإشبيلي وابنتها وكانتا عالمتان بصناعة الطب والمداواة للنساء. ذكر ابن جلجل القرطبي في كتابه "طبقات الآطباء والحكماء"، عظماء الأندلس في الطب، ويؤكد ان مختبراً للأدوية ظهر في بلاط الخليفة الحكم الثاني عمل فيه صيادلة من الصقالبة، "وتولى إقامة خزانة طبية بالقصر لم يكن قط مثلها ورتب لها اثنا عشر صبيأً من الصقالبة"، وطباخين للأشربة، وصانعين للمعجونات، واستأذن آمير المؤمنين أن يعطي منها من احتاج من المساكين والمرضى، فأباح له ذلك.
اشتغل في الطب عدد كبير من النصارى واليهود، وهذا دليل على التسامح والثقة المتبادلة والإعتراف بعلوم الديانات ومن هؤلاء: خالد بن يزيد بن رومان النصراني. ابن ملوكة النصراني. إسحاق الطبيب. اهتم أطباء الأندلس بالأمراض الوافدة على بلدهم مثل وباء الطاعون الذي انتشر في أوروبا في منتصف القرن الثامن هجري – الرابع عشر ميلادي، ووقف القوم منه متفرجين ومكتوفي الأيدي باعتبار أنه من حكم القضاء والقدر وسارع أبن الخطيب الغرناطي الى دراسة الوباء ووضع علاجاً له وصنف كتاباً بعنوان " حقيقة السائل عن المرض الهائل".
ويذكر العلامة الأمريكي فكتور روبنسون أنه كان في طليطلة وحدها ما يربو على اربعمئة مستشفى. معالج طبيب حدايبن شبروط الخاص بالخليفة عبد الرحمن الناصر الأمير شانجة المعروف بالسمين المصاب بالسمنة المفرطة. وفي الإختراعات والإبداعات العلمية قام عباس بن فرناس التاكراني بأول محاولة للطيران بالعالم وكان عالماً وفيلسوفاً حاذقاً وشاعراً وكاتباً ومنجماً محققاً جيد الاختراع كثير الإبداع، احتال بقرطبة في تطيير جثمانه فكسا نفسه الريش ومد لنفسه جناحين على وزن معلوم وتقدير قدره، فتهيأ له أن استطار في الجو من ناحية الرصافة وهي على ستة أميال من قرطبة واستعلى في الهواء فحلق فيه حتى وقع من مكان مطاره على مسافة بعيدة. وساء على ذلك موقعه، لما تأذى من عجب ذنبه، اذ لم يحسن الإحتيال في وقوعه ولم يقدر أن الطائر إنما يقع على زمكاه فسها عن ذلك. وقد كان أفزع من عاين مطاره من أهل قرطبة، فكثر تحدثهم عما عاينوه منه ولا يعلمون شأنه.
أصبحت الأندلس في عصر الخلافة واثناء حكم عبد الرحمن الناصر مركز التفاعل الحضاري كما صور لنا ذلك ابن حيان القرطبي بقوله :" وكان ملكه بالأندلس في غاية ما يكون من الضخامة، ورفعة الشأن، وهادته الروم، وانزلقت إليه، تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبقَ أمة سمعت من ملوك الروم والإفرنجة، والمجوس وسائر الأمم، إلا وجرت إليه، أو وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية.
إستشهادات حضارية متفرقة
يتطلب الإزدهار حرية في التجاذب والتفاعل بين المفكريين، فالفكر المسيحي يكاد ينحصر في الأديرة وفي أقلام الرهبان والقسس، حيث كان العالم المسيحي خاضعاً لسلطة الكنيسة التي كانت الأخرى بدورها ترفض كل جديد. كان العطاء الفكري والحضاري مشتركاً متبادلاً في الأندلس، وكان العرب يحملون عناصر قوية خيرة لحضارة تتطلب التكامل وتنشد التعاون على انمائها وانتشارها، وقد وجدت التربة الصالحة للغرس والمياه العذبة والأجواء المناسبة في أرض اسبانيا. يقول المؤرخ الإنكليزي جورج ملو في كتابه " فلسفة التاريخ " إن مدارس العرب في اسبانيا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوروبيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة.
يقول المؤرخ الفرنسي فاليير في كتابه " استرداد الأندلس " إن البعثات العلمية كانت في أوروبا على قدم وساق لإرسالها إلى الأندلس الإسلامية لتلقف العلوم والفنون والصناعات في معاهدها الكبرى، وذلك بنتيجة الدعايات التي انتشرت في قصور ومراكز معظم المقاطعات الأوروبية. وممن درس في قرطبة وتخرج على أيدي علمائها شانجة Sancho ملك ليون واستويا، وهو دليل أكيد على الإعجاب والتفاعل الحضاري والتعايش العلمي بين الإضاءة الزيتية في الأزقة العامة بقرطبة في الوقت الذي كان يعم الظلام عواصم أوروبا، ويؤكد المراكشي ذلك بقوله: "وسمعت بلاد الأندلس من غير واحد من مشايخها أن الماشي كان يستضيء بسروج قرطبة ثلاثة، فراسخ لا ينقطع عنه الضوء.
وينقل لنا ابن صاعد الأندلسي (462هـ - 1070م) صورة مغايرة للأندلس وعن أوضاع سكان إسبانيا وأوروبا وأحوالهم من الجلالقة بقوله: "أشبه بالبهائم منهم بالناس لأن من كان منهم موغلاً في بلاد الشمال اضمرت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم فعدموا بهذا دقة الأفهام، وثقوب الخواطر وغلب عليهم الجهل والبلادة وفشا فيهم العمى والغباوة. كما صور لنا الجغرافي البكري القرطبي الصقالبة وحياتهم وأوضاعهم المختلفة نقلاً الطرطوشي بقوله: "أهل غدر ودناوة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام الا مرة أو مرتين بالماء البارد ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوها من عرقهم تنعم به أجسامهم وتصح أبدانهم، وثيابهم أضيق الثياب وهي مفرجة تبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم.
وتحدث المستشرق الإسباني ليفي بروفنسال عن الاشعاع الجضاري الأندلسي على إسبانيا والعالم بقوله: "لم يصل إشعاع الثقافة الأندلسية على الأرض المسيحية أقصى مدى باندفاعه في القرن العاشر ميلادي لكي يأخذ بالتلاشي بعد ذلك فقد امتد على العكس حتى القرن الخامس عشر ميلادي باسطاً خيوطه على جميع أجزاء شبه الجزيرة، ولم يفعل ملوك أراكون ليردوه عن بلادهم الخاصة، بل شجعوا هذا الإشعاع أيضاً وذلك بأن تبنوا أنفسهم في احتفلاتهم ببلاطاتهم شتى المبتكرات المستقاة من الحضارة المجاورة مباشرة ، وان قيام بعض عواهل الإسبان بضرب عملات ذات وجهين عربي وقشتال هو أمر كثير الوقوع. ويؤكد ليفي بروفنسال آثار العرب الثقافية في إسبانيا بقوله: "إن أعمق أثر كما يبدو تركه سكان شبه الجزيرة الأصليون في العصور الوسطى في الأندلس من جهتي حدودها الإسلامية هو ذلك الأثر الذي خلفوه في لهجاتها الدارجة. دخلت المصطلحات الأندلسية في اللغة الأسبانية في الجانب الحربي والإداري والإقتصادي ولا تزال أسماء وقرى ومدن وشوارع وساحات وقلاع أمثلة وعادات وتقاليد عربية حية في المجتمع الإسباني وهو دليل الإعتزاز والتعايش والإعجاب بحضارة العرب ومجدهم في اسبانيا.