الذكاء الإصطناعي والإستعمال الحكيم -أ. إيمان أبو شاهين يوسف

 الكاتبة والباحثة 

 الاستاذة ايمان أبو شاهين يوسف 



جاء شاب الى العالِم الفقيه "عبدالله بن عباس" يسأله في مسائل كثيرة ومعقدة. إبتسم ابن عباس وقال: العلم يا بنيّ كنز عظيم ، لكنه مثل المفتاح؛ تَفْتَح به أبواب الخير إذا استعملته بحكمة، وتَغْلِق به أبواب السلام إذا أسرفت فيه بلا فهم. فهم الشاب الدرس بأن " المعرفة تحتاج الى عقل واعٍ وقلب حكيم قبل الإستعمال" قد يسأل أحدكم : ما السبب وراء هذه المقدمة؟ 

نجيب ونقول: إن ما يدعونا الى هذه المقدمة هو، تلك الثورة التكنولوجية  الهائلة التي يشهدها العالم اليوم، وما يرافقها من  إنتشار واسع  للذكاء الإصطناعي، الذي لم يعد مقتصراً على ميادين العلم المتخصص كالطب والفلك والهندسة...، بل أصبح جزءاً من الاستخدام اليومي العام للناس. 

فالعالم اليوم يعيش ثورة  غير مسبوقة في مضمونها وخصائصها، وأبعادها. ثورة محركها الأساسي وقاعدتها الجوهرية  هو "الذكاء الإصطناعي". كيف ذلك؟ إنه باختصار،عصر الذكاء الإصطناعي؛ عصر وُلِدَ من تراكم معارف الإنسان عبر التاريخ، منذ أن بدأ يدوِّن خبراته ويتجاوزعقبات تطوره. هذا التاريخ المدوَّن هو ما نميِّزه عن عصور ما قبل التاريخ التي سبقت ظهور الكتابة، والتي لم يصلنا منها إلا أثار مادية بسيطة كالنقوش والأدوات الحجرية. 

والملاحظ  اليوم هو، بدء استسلام الانسان امام وعي الذكاء الإصطناعي، هذا الذكاء الذي اصبح  جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ومرجعاً اساسياً للإجابة عن كل ابحاثنا وتساؤلاتنا. 

حتى بعضهم راحَ يقول باننا في المستقبل القريب لن نبقى  بحاجة الى المدارس والجامعات أمام ما يقدمه الأنترنت وبرامج الذكاء الإصطناعي من  علوم ومعرفة. لماذا؟ 

لإن الذكاء الإصطناعي يسهِّل علينا الوصول الى المعلومات ويسرِّعها، ويوسِّع آفاق التعلُّم عند جميع البشر تقريباً، كما ويقدِّم حلولاً دقيقة في مجالات عديدة، وبفضل هذه التقنية أصبح بإمكان أي شخص مهما كان موقعه، عمره، أو مستوى تعليمه، الإطلاع على علوم العالم بأكمله، ومعرفة ما كان في الماضي حِكراً على فئة قليلة من الناس ، كالفلسفة والقانون والنظم  السياسية والاقتصادية وغيرها. 

كما  وأصبح بالإمكان تجاوز الحواجز الزمنية والجغرافية والإجتماعية والإقتصادية والوصول الى المعرفة بطريقة مرنة سهلة وسريعة، دون صرف الوقت  للدراسة والبحث. وبكل سهولة يحصل الانسان على إجابات فورية لأي سؤال يرد على فكره. 

فترى من الناس مثلاً من يسأل عن طريقة لصنع الطعام، أو عن طريقة لتقليم الأشجار، او تحديد مواقع جغرافية معينة، أو إجراء حسابات مختلفة... وهكذا لم يعد الانسان بحاجة للتفكيروالتحليل والبناء والقياس، فكل شيء أصبح جاهز ويمكن الحصول عليه بواسطة الذكاء الاصطناعي.  

يا للروعة؛  لقد أصبح الناس جميعا متساوون في القدرة على المعرفة ، ولم يعد يوجد بين أبناء البشر من يتباهى بمعرفته، ولا من يتفوق بذكائه. فالذكاء الاصطناعي حقّق المساواة بين الجميع لأنه في خدمة الجميع على حدٍّ سواء ، وكل من يطرق بابه يجد لسؤاله جواب. 

حقّاً إنه مشهدٌ بديع، وصورة رائعة للرعايا البشرية وهي تقف في حضرة القائد الأعلى الجديد المسمّى  "الذكاء الإصطناعي". ذلك الحاكم الوحيد الذي إرتضت البشرية وبملء إرادتها أن تخضع له. 

تماماً كما سلّمت الحيوانات  عبر التاريخ زمام أمرها للإنسان، فتراجعت تدريجياً عن سيادتها وقدراتها لصالحه، حتى غدا هو السيد المطلق لهذه الأرض وكائناتها. ومع مرور الزمن، أخذ الإنسان يطوِّر ذكاءه ومعرفته، بينما تخلَّت معظم الحيوانات عن التفكير والتدبير، واستسلمت لقيادته. وصار الإنسان يصنِّف كل ما تملكه هذه الحيوانات من وعي ضمن خانة "الغرائز".  و

هكذا مع الوقت، أصبحت السلالات البشرية تتعجب من أي بادرة ذكاء تظهرعند الحيوان وتتناقل الخبر كنادرة غير متوقعة،  ويقولون مثلاً:  سبحان الله ، هل تعلمون أن للغربان قوانين تحكم تجمعاتهم، وأن لهم محكمة تقاضي من يسرق بيوض الفراخ أو يغازل زوجة غراب آخر؟ هل تعلمون ان للقرود بعض الوعي، فإنهم يستعملون الحجر لكسر حبة الجوز؟ هل تعلمون ان النسر يحمل طريدته الى نقطة عالية من الفضاء ويرميها حتى تموت سريعا فيلتهمها ويسكت جوعه؟ هل تعلمون ان الجرذ يحمل البيضة بين يديه بعد ان ينام على ظهره  ويستعين بجرذ آخر لكي يجرّه الى مخبأه؟ هل تعلمون .... ؟وعل تعلمون...؟ وغير ذلك من مواقف استهجان. والمشكلة أن الإنسان لم يسأل نفسه يوما لماذا هو يتحكم بهذه الحيوانات؟ ولماذا اسد الغاب لم يعد مَلِكَها؟ ولماذا الحمار توقف عن السعي لتحصيل لقمة عيشه بانتظار حفنة شعير من سيده الانسان؟ ولماذا من تبقى من النسور يعيش في اعلى قمم الجبال؟ ولماذا...؟ولماذا...؟ الجواب بسيط: عندما أصبح الحيوان يخشى تفوق الإنسان  ويخضع لعلمه وتعليماته، معتمداً عليه في كل صغيرة  وكبيرة من قراراته وتصرفاته، تراجع عقله عن الخلق والإبداع  وبدأ دوره الطبيعي ينحصر ويتقوقع. 

وفي حالات كثيرة  أدى الى انقراض بعض الأنواع. وهذا هو صلب الموضوع. وما القصد من ذلك؟؟؟ القصد  من ذلك أن على الإنسان أن لا يغفل عن هذه الحقيقة، وأن يفعل كما نصح به عبد الله بن عباس ، ويجعل من العلم سلاحا يزيده قوة ومعرفة. ودافعاً يحثه على الخلق والتجدد والإبداع. 

وأن لا يستسلم في كل اموره للذكاء الاصطناعي. لان استسلامه هذا هو بداية لضموره العقلي وتوقف قدراته الإبداعية الخلاقة. فالمستقبل لم يَعُدْ بعيداً. والعصر الذي كان فيه الإنسان  سيداً على هذه الأرض يوشك أن يطوي صفحاته، ليبدأ زمن جديد يغدو فيه الإنسان مجرَّد كائن محدود الذكاء، قليل الحركة، ضعيف الحيلة، يستند قي معلوماته وقراراته الى الذكاء الإصطناعي الذي سيصبح السلطة العليا على هذا الكوكب. 

ومن يعجز من البشر على التأقلم مع هذا الواقع الجديد فلن يكون في انتظاره سوى الهامش والإنعزال.   

وهنا يجب التأكيد بأن هذا الكلام ليس في سبيل التهويل أوالإرباك ابداً ، بل إنها الحقيقة التي تجسّدت أثارها في حياتنا اليومية ، حيث أصبح الضمور العقلي واضحا في السلوكيات البشرية، ( طلاب يسلِّمون ابحاثهم كاملة  من إنتاج الذكاء الإصطناعي دون أي جهد شخصي، فنانون يعتمدون في انتاج فنونهم المختلفة على الذكاء الإصطناعي دون أي دور لمهاراتهم الفكرية او اليدوية. كتاب ينشرون كتبا من كتابة الذكاء الإصطناعي، حتى اعتماد  السائقين المستمر على ( GPS ) جعل الكثيرين منهم  إن لم نقل الجميع عاجزين عن تذكر الطرقات وتحديد الاتجاهات بأنفسهم. 

كل ذلك يُظْهِر كيف يمكن لهذا الذكاء الإصطناعي أن يؤثر تدريجياً على نشاط العقل وحيويته إذا غاب الوعي والتحكُّم في استخدامه. 

والمثل يقول: العقل الذي لا يفكِّر تتآكله العتمة شيئاً فشيئا. لذلك يصبح من الضروري توجيه استعمال الذكاء الإصطناعي بوعي وحذر، وجعله أداة مساعدة لا بديلاً عن التفكير البشري. 

كما ويجب وضع ضوابط تمنع الاستسلام للإجابات الجاهزة والاستعمال العشوائي لهذه البرامج خصوصا بين الطلاب والاعمال الفكرية، من أجل الحفاظ على قدرة العقل على التفكير النقدي والتجديد والإبتكار، لكي يبقى الإنسان صانع المعنى والمبدع الحقيقي في زمن التحدي" زمن الذكاء الإصطناعي" وما بعده.

@جميع الحقوق محفوظة