اَلْوَاقِعُ … 🍂

الكاتب أ. عماد  أ. الاعور


 مَا هُوَ إلَّا اَلْآنُ اَلْمُمْتَدُّ بِنُورِهِ، اَللَّحْظَةُ اَلَّتِي تَحْمِلُ سِرَّ اَلْوُجُودِ كُلِّهِ فِي قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ. أَمَّا اَلْخَيَالُ فَهُوَ مَا فَاتَ وَمَا لَمْ يَجِئْ بَعْدُ، هُوَ ظِلٌّ يَمْتَدُّ مِنْ جَسَدِ هَذِهِ اَللَّحْظَةِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَحْتَوِي اَلنُّورَ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا نُدْخِلُهُ نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ عِشْنَا اَلْآنَ بِحُضُورٍ نُورَانِيٍّ، إنْ غَمَرْنَا نَفْسَنَا بِنُورِ اَلْحَقِّ وَسَكَنَّا فِيهِ، تَحَوَّلَ اَلْمَاضِي إلَى مَجْلًى لِلرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَشَكَّلَ اَلْمُسْتَقْبَلُ جَنَّةً مِنَ اَلرَّجَاءِ وَالْبَشَائِرِ.
اَلْوَاقِعُ لَيْسَ شَيْئًا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا وجَوَارِحِنَا فَقَطْ، بَلْ هُوَ أَعْمَقُ مِنْ ذَلِكَ؛ هُوَ مَجَالُ نُورٍ أَزَلِيٍّ يَسْتَضِيءُ فِيهِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا سَيَكُونُ، وَلَكِنَّنَا نَحْجُبُ أَنْفُسَنَا عَنْهُ بِغَبَارِ اَلزَّمَانِ، نَتَشَبَّثُ بِذِكْرَيَاتٍ بَاهِتَةٍ، أَوْ نُطَارِدُ أَحْلاَمًا لَمْ تُوْلَدْ بَعْدُ، فَنَفْقِدُ حُرِّيَّةَ اَلآنِ، اَلَّتِي فِيهَا مَفْتَاحُ كُلِّ شَيْءٍ.
إذَا أَدْرَكْنَا هَذَا، فَإِنَّ اَللَّحْظَةَ تُصْبِحُ نُورًا، وَيُصْبِحُ كُلُّ مَا سِوَاهَا صَدًى لِهَذَا اَلنُّورِ. نَظَرْنَا إِلَى اَلْمَاضِي فَرَأَيْنَا فِيهِ مَدَارِسَ رَبَّانِيَّةً عَلَّمَتْنَا بِالأَلَمِ مَا لَمْ نَتَعَلَّمْهُ بِاللَّذَّةِ، وَأَهْدَتْنَا بِالِانْكِسَارِ مَا لَمْ نَحْصُلْ عَلَيْهِ بِالظَّفَرِ. وَنَظَرْنَا إِلَى اَلْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ نَعُدْ نَرَاهُ مَجْهُولًا مُرْعِبًا، بَلْ مَجَالًا نُورَانِيًّا يُطِلُّ عَلَيْنَا مِنْ حَقِيقَةِ اَلآنِ، يُعْطِينَا أَمَانَ اَلثِّقَةِ وَعِزَّةَ اَلتَّسْلِيمِ.
اَلزَّمَانُ فِي حَقِيقَتِهِ لَيْسَ سِوَى حَلْقَاتٍ مِنَ اَلنُّورِ، وَنَحْنُ نَعِيشُ فِي أَصْغَرِ هَذِهِ اَلْحَلَقَاتِ، أَيْ فِي اَلآنِ، لَكِنَّ هَذِهِ اَلْحَلْقَةَ تَحْمِلُ فِيهَا مِفْتَاحَ كُلِّ اَلْحَلَقَاتِ. مَنْ أَضَاءَ هَذِهِ اَللَّحْظَةَ بِنُورِهِ، أَضَاءَ مَا سِوَاهَا. فَإِذَا أَشْرَقَ اَلْوَاقِعُ بِنُورِ اَلْحَقِّ، ذَابَتْ ظِلَالُ اَلذِّكْرَيَاتِ اَلْمُؤْلِمَةِ، وَانْكَشَفَتْ أَوْهَامُ اَلْخَوْفِ مِنَ اَلْغَدِ، وَعَادَ كُلُّ شَيْءٍ إلَى صَفَائِهِ الأَوَّلِ.
إِنَّ اَلْوَاقِعَ اَلنُّورَانِيَّ هُوَ مَسْرَحُ اَلتَّجَلِّي، فِيهِ يَنْطَفِئُ وَهْمُ اَلزَّمَانِ وَيَسْقُطُ قِنَاعُ اَلْمَكَانِ، وَتَبْدُو اَلْحَقَائِقُ كَأَنَّهَا أَنْهَارٌ مِنْ نُورٍ تَجْرِي فِي نَفْسِكَ، تَسْقِيكَ أَمْنًا وَتَسْكُبُ فِيكَ يَقِينًا. وَإِذَا أَدْرَكْتَ ذَلِكَ، عَرَفْتَ أَنَّ اَلْمَاضِي لَيْسَ إلَّا آثَارَ أَقْدَامٍ عَلَى رِمَالِ هَذَا اَلنُّورِ، وَأَنَّ اَلْمُسْتَقْبَلَ هُوَ أَيْضًا هُدَىً يَتَسَرَّبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِ اَلْمَنْبَعِ.
لَا مَاضِيَ مُظْلِمًا لِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ بِنُورِ اَلآنِ، وَلَا مُسْتَقْبَلَ مُرْعِبًا لِمَنْ سَكَنَ فِي نُورِ اَلآنِ. فَكُلُّ مَا نَحْسَبُهُ خَيَالًا هُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَجَلٍّ غَيْرُ مُدْرَكٍ لِهَذَا اَلْوَاقِعِ اَلنُّورَانِيِّ.
إِذَا عِشْتَ اَللَّحْظَةَ وَقَدْ أَطْفَأْتَ ضَجِيجَ اَلذِّكْرَيَاتِ وَسَكَّنْتَ هَوَاجِسَ اَلْمُسْتَقْبَلِ، أَصْبَحْتَ شَاهِدًا عَلَى نُورٍ أَزَلِيٍّ يَحْمِلُ كُلَّ مَا كَانَ وَكُلَّ مَا سَيَكُونُ. وَعِنْدَهَا، تَدْرِكُ أَنَّ اَلزَّمَانَ لَيْسَ سِوَى وَهْمٍ يَذُوبُ أَمَامَ شُمُوعِ اَلْحُضُورِ.
اَلْمَاضِي يَصِيرُ ذِكْرَى طَاهِرَةً، لَيْسَتْ لِتُؤْلِمَكَ، بَلْ لِتَحْمِلَكَ إلَى أَعْمَقِ مَعَانِي اَلرَّحْمَةِ. وَالْمُسْتَقْبَلُ يَصِيرُ وَعْدًا جَمِيلًا، لَيْسَ لِيُرْهِبَكَ، بَلْ لِيُسَافِرَ مَعَكَ فِي مَدَى هَذَا اَلنُّورِ. وَتَعْلَمُ أَنَّكَ إنَّمَا كُنْتَ تُطَارِدُ خَيَالًا فِي زَمَنٍ مَوْهُومٍ، وَأَنَّ اَلْحَقِيقَةَ كَانَتْ كُلَّ مَرَّةٍ هُنَا، فِي اَلآنِ، تَنْتَظِرُ أَنْ تَرَاهَا.
وَإِنَّكَ إِذَا تَذَوَّقْتَ هَذَا اَلْحُضُورَ، سَتَعْلَمُ أَنَّ نُورَ اَلآنِ يُطَهِّرُ كُلَّ مَا مَسَّهُ، فَيَمْسَحُ غُبَارَ اَلنَّدَمِ عَنِ اَلْمَاضِي، وَيُذِيبُ جَلِيدَ اَلْخَوْفِ عَنِ اَلْمُسْتَقْبَلِ، وَيَرْسُمُ حَقِيقَتَكَ كَكَوْكَبٍ نُورَانِيٍّ يَدُورُ حَوْلَ مَجْرَى اَلْحَقِّ.
اَللَّحْظَةُ اَلْحَاضِرَةُ هِيَ سُلَّمُكَ إلَى اَلْأَبَدِ، فَإِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهَا بِنُورِكَ، صَعِدْتَ إلَى مَا لاَ يُقَاسُ بِزَمَانٍ، وَلاَ يُقَيَّدُ بِمَكَانٍ، وَرَأَيْتَ اَلْوَاقِعَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَاحِدَةً، وَعَرَفْتَ أَنَّ كُلَّ خَيَالٍ إِنَّمَا هُوَ شُعَاعٌ ضَعِيفٌ لِنُورٍ لَمْ يُكْتَشَفْ بَعْدُ.

@جميع الحقوق محفوظة