بنو معروف : الإسم الذي يختصر السيرة والموقف .

 17-5-2025

بقلم: فاروق غانم خداج
كاتب لبناني ثنائي اللغة (العربية والإنجليزية)، مهتم بالفكر الأدبي والهوية الثقافية، يسعى لتوثيق التجارب والأصالة في المشرق العربي.( نُشرت هذه المقالة بالانكليزية على موقعي medium و substack)




في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، يُطلق اسم "بني معروف" على طائفة دينية واجتماعية أصيلة، عُرفت بمواقفها المشرفة والتزامها العميق بقيم الكرامة والشهامة. وعلى الرغم من شيوع تسمية "الدروز" في التداول العام، فإن لقب "بني معروف" يستخدمه كثير من الناس خارج الطائفة إجلالًا لما تمثّله هذه الجماعة من صفات نبيلة، لا باعتباره اسمًا تطلقه الطائفة على نفسها. فالدرزي لا يصف نفسه عادة بأنه "من بني معروف"، لكنه يعتز بأن يُعرَف بها، لأن هذه التسمية تنطوي على دلالة أخلاقية وتاريخية أسمى من التصنيف الطائفي.


أصل الاسم ومعانيه


"بنو معروف" اسم يُعتقد أنه يرتبط، بصورة رمزية، بـالسيد عبد الله التنوخي، أحد أكبر أعلام الطائفة التوحيدية، وصاحب المقام المعروف في بلدة عبيه بجبل لبنان. وقد ارتبط هذا الشيخ الجليل في الوجدان التوحيدي والإسلامي بالورع والتقوى وصفاء السريرة، حتى صار رمزًا للمعروف لا بالاسم فحسب، بل بالفعل والسيرة. يُروى عنه الكثير من الحكم والمآثر، ولا يزال مزارُه مقصدًا لأبناء الطائفة وغيرهم، يستلهمون منه معاني السكينة والبصيرة.
غير أنّ الاسم تجاوز النسبة الشخصية، ليغدو وصفًا عامًا لمن سلكوا نهج الخير والنبل. فـ"المعروف" في الثقافة العربية يشير إلى الفعل الحسن والسلوك النبيل، ما جعل الاسم، في الوجدان الشعبي، مرادفًا للفروسية والوفاء والمروءة. لذا، حين يُطلق الآخرون هذا الاسم على أبناء الطائفة، فهم يختصرون تاريخًا من الوقفات الكريمة والبطولات الصامتة، في عبارة تعبّر عن الاحترام أكثر مما تعبر عن التصنيف.
مواقف بني معروف مع الآخرين في لبنان: جسور من التعايش والوفاء
لم تكن مواقف بني معروف مع الطوائف الأخرى في لبنان أقل نبلاً من مواقفهم الوطنية أو القومية. فقد اشتهروا بتقوية روابط التعايش والاحترام المتبادل مع الجيران، مما ساهم في بناء نسيج اجتماعي متماسك في بيئة لبنانية متعددة الطوائف.
وثّقت بعض المصادر منح الدروز، الذين يُشار إليهم بـ"بني معروف"، أراضيهم لبعض جيرانهم المسيحيين كدليل على حسن النية والكرم، خصوصًا في فترات توتر شهدتها البلاد. كان هذا الفعل تجسيدًا حيًا لروح التضامن والتآخي، ورفضًا للعنف والاقتتال.
هذه المواقف ليست مجرد أحداث تاريخية، بل رموز حيّة تُذكر اليوم كمثال على قدرة اللبنانيين على تجاوز الخلافات الطائفية من أجل الوحدة الوطنية والمصلحة العامة.


بطولات راسخة في الذاكرة


في سوريا، لا يُمكن ذكر بني معروف دون التوقف عند الثورة السورية الكبرى عام 1925، حين قاد سلطان باشا الأطرش انتفاضة وطنية ضد الاستعمار الفرنسي، لم تكن درزية فحسب بل سورية جامعة. في جبل العرب، حمل الرجال السلاح لا حبًا بالحرب، بل دفاعًا عن الكرامة والوطن. وفي لبنان، كان للأمراء المعنيين، ثم للقادة الوطنيين من أبناء الطائفة، دور أساسي في بناء الدولة والدفاع عنها، خصوصًا في مرحلة الاستقلال.
أما في فلسطين، فقد رفض كثير من أبناء الطائفة الانسلاخ عن النسيج الوطني، وشاركوا في مقاومة الاستعمار والصهيونية. وفي الأردن، اتسم حضورهم بالولاء العميق للعرش الهاشمي، وبالمشاركة الفاعلة في الجيش ومؤسسات الدولة، وكان لهم دور مشرّف في بناء المملكة ودعم استقرارها.


قصة أدهم خنجر: حين يصبح العهد أثمن من السلامة


في سجل الشرف الذي خطّه رجال الجبل، تتألق قصة أدهم خنجر كرمز للوفاء وعزة النفس. وقد تناقل الناس روايتين متكاملتين، تتّحدان في مغزًى واحد: أن المعروف، حين يسكن القلب، يصير عهدًا يُحمى لا يُخان.
الرواية الأولى تقول إن أدهم خنجر، الثائر اللبناني، كان مطاردًا من سلطات الانتداب، فلجأ إلى شيخ درزي عُرف بالنبل والتقوى، فأجاره قائلًا له: "ادعم خنجر"، أي ضع خنجرك إلى جانبي، فأنا لك الحمى والعهد. وفعلاً، صان الشيخ عهده، وأبى أن يسلمه رغم التهديد، حتى صار ذلك الموقف مثالًا يُروى في حماية الضيف.
أما الرواية الأشهر، فتذكر أن أدهم خنجر لجأ إلى دار سلطان باشا الأطرش في غيابه، فدخل الفرنسيون المنزل واعتقلوه، في خرقٍ فاضح لحرمة الضيافة. وحين عاد السلطان وبلغه الخبر، اعتبر ذلك اعتداءً على شرف البيت، فانتفض وأطلق الثورة، لا فقط انتصارًا لأدهم، بل دفاعًا عن عُرف الجبل وحرمة الضيف.
في كلتا الروايتين، يتجلّى المعنى ذاته: أن المعروف ليس كلمةً تُقال، بل مبدأ يُقاتَل لأجله، وسلوك تُبذل في سبيله الأرواح.


الاسم هوية لا ادّعاء


من المهم التأكيد على أن الطائفة التوحيدية لا تطلق على نفسها اسم "بني معروف"، ولا تتداوله داخلها كتعبير ذاتي. ومع ذلك، لا ترفض هذا اللقب حين يأتي من الآخر بإجلال أو إنصاف، لأنه يعكس صفات سامية تُجلّها الطائفة وتطمح إلى تجسيدها. من هنا، صار الاسم مرآةً لما رُسّخ في الذاكرة الجماعية عن هذه الجماعة: عزّة، شهامة، حياد نزيه، وانتماء صادق للأرض.


خاتمة


"بنو معروف" ليس اسمًا يُسجَّل في الوثائق، بل شرف يُمنَح على السيرة والسلوك. في كل من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، تميز أبناء الطائفة بمواقفهم النبيلة، وحرصهم على التوازن والإصلاح، وولائهم الصادق لأوطانهم. يكفيهم فخرًا أن يُقال عنهم إنهم من بني معروف، لأن المعروف، في النهاية، هو ما يبقى.