الرِّزْقُ ،،، 🍂 - الكاتب الدكتور عماد الاعور

الرِّزْقُ لَيْسَ مَا تَلْتَقِطُهُ الأَيْدِي ثُمَّ تَنْصَرِفُ عَنْهُ،وَلَا مَا تُحْصِيهِ الأَعْيُنُ فَتَسْكُنُ إِلَيْهِ، 

بَلْ هُوَ سِرٌّ يَتَنَزَّلُ عَلَى الْفُؤَادِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْكَفِّ، وَنُورٌ يُودَعُ فِي الدَّاخِلِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الظَّاهِرِ. 

هُوَ عَطَاءٌ ذُو طَبَقَاتٍ، ظَاهِرٌ يُقِيمُ الْجَسَدَ، وَبَاطِنٌ يُحْيِي الرُّوحَ، وَجَوْهَرٌ يُحَرِّرُ الإِنْسَانَ مِنْ وَهْمِ الْحَاجَةِ.

مَنْ وَقَفَ عِنْدَ الصُّورَةِ ضَاقَ، وَمَنْ نَفَذَ إِلَى الْمَعْنَى اتَّسَعَ، وَمَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ مَعْرِفَةً يَقِينٍيَّةً عَلِمَ أَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْحَقِّ، لَا مَتَاعٌ لِلْغَفْلَةِ.
أَعْظَمُ الرِّزْقِ هُوَ رِزْقُ الْأَرْوَاحِ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، ذَلِكَ النُّورُ الَّذِي يُوقِظُ الْفَهْمَ، وَيَفْتَحُ أَبْوَابَ الْبَصِيرَةِ، وَيَرُدُّ النَّفْسَ إِلَى أَصْلِهَا. 

هُوَ الْقُوتُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي إِذَا غَابَ جَاعَتِ النُّفُوسُ وَلَوِ امْتَلَأَتِ الْمَوَائِدُ، وَإِذَا حَضَرَ اسْتَغْنَتِ الْقُلُوبُ وَلَوْ قَلَّ الْعَرَضُ. 

كَمْ مِنْ جَسَدٍ شَبِعَ وَبَقِيَتِ الرُّوحُ فِيهِ خَاوِيَةً، وَكَمْ مِنْ فُؤَادٍ امْتَلَأَ حِكْمَةً فَاسْتَقَامَ، وَسَكَنَ، وَأَثْمَرَ.
وَأَمَّا رِزْقُ الْجَسَدِ فَحَاجَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَضَرُورَةٌ لِاسْتِمْرَارِ السَّيْرِ، لَكِنَّهُ وَسِيلَةٌ لَا غَايَةَ، وَخَادِمٌ لَا سَيِّدَ. خُلِقَ لِيُعِينَ الإِنْسَانَ عَلَى أَدَاءِ مَا وُكِلَ إِلَيْهِ، لَا لِيَشْغَلَهُ عَنْ وَجْهَتِهِ.

 مَنْ جَعَلَهُ مَقْصِدَهُ ضَلَّ، وَمَنْ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ اسْتَقَامَ. 

فَالْحِكْمَةُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَدْرٍ، وَيُدَارَ بِعَدْلٍ، وَيُحْمَلَ بِشُكْرٍ.
الرِّزْقُ قِسْمَةٌ حَكِيمَةٌ، لَا تَجْرِي عَبَثًا، وَلَا تُقَاسُ بِالْكَثْرَةِ أَوِ الْقِلَّةِ. 

لَيْسَ الاتِّسَاعُ دَلِيلَ كَرَامَةٍ، وَلَا الضِّيقُ عَلامَةَ مَهَانَةٍ. 

كِلَاهُمَا حَالٌ يُمْتَحَنُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ. 

الرَّاضِي يَعْرِفُ أَنَّ التَّدْبِيرَ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِهِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ تَرَى مَا لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ. 

فَلَا يُخَاصِمُ النَّصِيبَ، وَلَا يُرَاقِبُ أَرْزَاقَ غَيْرِهِ، وَلَا يَرْبِطُ قِيمَتَهُ بِمَا يَمْلِكُ.
وَالِاعْتِرَاضُ الْخَفِيُّ لَيْسَ صَوْتًا مَرْفُوعًا، بَلِ اضْطِرَابُ فُؤَادٍ، وَقَلَقٌ مُسْتَتِرٌ، وَشَكْوَى دَائِمَةٌ تُتْعِبُ الرُّوحَ وَتَحْجُبُ النُّورَ. 

أَمَّا التَّسْلِيمُ فَسَكِينَةٌ، لَا تُعَطِّلُ السَّعْيَ بَلْ تُطَهِّرُهُ. 

يَعْمَلُ الإِنْسَانُ بِجِدٍّ، وَيَجْتَهِدُ بِوَعْيٍ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الثَّمَرَةَ، فَلَا يَطْغَى إِذَا أُعْطِيَ، وَلَا يَنْهَارُ إِذَا مُنِعَ.
وَيَرْتَبِطُ الرِّزْقُ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالصِّدْقِ، فَالصِّدْقُ مِيزَانُ الْبَرَكَةِ، وَأَوَّلُ أَبْوَابِ النُّورِ. صِدْقُ اللِّسَانِ لَيْسَ لَفْظًا مُسْتَقِيمًا فَحَسْبُ، بَلْ مَسْلَكٌ كَامِلٌ يَتَجَلَّى فِي الْمُعَامَلَةِ، وَفِي الْكَسْبِ، وَفِي النِّيَّةِ. 

مَا وُلِدَ مِنَ الصِّدْقِ عَاشَ، وَمَا خَرَجَ مِنَ الْكَذِبِ اضْطَرَبَ وَلَوْ كَثُرَ. الرِّزْقُ الصَّادِقُ يُنِيرُ الدَّاخِلَ، وَيُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ، وَيُهَيِّئُ النَّفْسَ لِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ.
وَالِاسْتِقَامَةُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ شَرْطُ صَفَاءٍ، لَا تَرَفٌ أَخْلَاقِيٌّ. 

فَالنَّفْسُ لَا تَسْتَقْبِلُ النُّورَ وَقَنَوَاتُهَا مُلَوَّثَةٌ. 

مَنْ أَرَادَ وُضُوحَ الرُّؤْيَةِ فَلْيُصْلِحْ مَنْبَعَ الْعَيْشِ. 

عِنْدَهَا يَصِيرُ الْعَمَلُ عِبَادَةً، وَالْكَسْبُ أَمَانَةً، وَالسَّعْيُ طَرِيقًا نُورَانِيًّا لَا يَقْطَعُ الصِّلَةَ بِالْمَعْنَى.
وَلَا يَكْتَمِلُ فَهْمُ الرِّزْقِ مَا دَامَ الْقَلْبُ أَسِيرَ الْأَسْبَابِ. 

الْأَسْبَابُ وُسُطَاءُ لَا مَصَادِرَ، وَجُسُورٌ تُسْتَعْمَلُ وَلَا تُعْبَدُ. 

مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِهَا ذَلَّ، وَمَنْ نَفَذَ بِبَصِيرَتِهِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا تَحَرَّرَ. 

هُنَا تَتَجَلَّى الْعِزَّةُ: أَنْ يَعْمَلَ الإِنْسَانُ دُونَ تَذَلُّلٍ، وَأَنْ يَطْلُبَ دُونَ نِفَاقٍ، وَأَنْ يَعِيشَ دُونَ مُسَاوَمَةٍ عَلَى كَرَامَتِهِ.
وَفِي أُفُقٍ أَعْمَقَ، يَتَحَوَّلُ الرِّزْقُ إِلَى مَدَدٍ رُوحِيٍّ، وَمِعْرَاجِ نَجَاةٍ. 

لَيْسَ مَا يُشْبِعُ الْبُطُونَ، بَلْ مَا يُنْقِذُ الْقُلُوبَ مِنَ التِّيهِ. 

هُنَاكَ رِزْقٌ يُنْزِلُ صَفَاءً، وَيَمْنَحُ فَهْمًا، وَيُقِيمُ الْعَقْلَ فِي مَوْضِعِهِ. 

كُلَّمَا ارْتَقَى الْإِنْسَانُ فِي وَعْيِهِ زَادَ نَصِيبُهُ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمُسْتَنِيرَ هُوَ الْوِعَاءُ، وَالصَّفَاءَ هُوَ الْبَابُ.
وَإِذَا فَاضَ الرِّزْقُ ظَهَرَ امْتِحَانُ الْمَسْؤُولِيَّةِ. 

مَا زَادَ عَنِ الْحَاجَةِ أَمَانَةٌ، لَا مِلْكِيَّةُ اسْتِئْثَارٍ. الرِّزْقُ إِذَا دَارَ زَكَا، وَإِذَا احْتُكِرَ فَسَدَ. 

فِي الْمُوَاسَاةِ حَيَاةٌ، وَفِي التَّكَافُلِ شِفَاءٌ، وَفِي حِفْظِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ تَجَلٍّ لِلْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ. هُنَا يَتَحَوَّلُ الرِّزْقُ مِنْ مَصْلَحَةٍ فَرْدِيَّةٍ إِلَى رَابِطٍ إِنْسَانِيٍّ، وَمِنْ تَكْدِيسٍ إِلَى تَوَازُنٍ.
الرِّزْقُ فِي جَوْهَرِهِ رِحْلَةٌ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْبَاطِنِ، وَمِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِنَى، وَمِنَ التَّعَلُّقِ إِلَى التَّحَرُّرِ. 

يَبْدَأُ بِسَعْيٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيَمُرُّ بِرِضًا عَمِيقٍ، وَيَنْتَهِي بِاسْتِغْنَاءٍ بِالْحِكْمَةِ. 

وَمَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لَمْ يَعُدْ يَخْشَاهُ، وَلَمْ يَعُدْ يُطَارِدُهُ، بَلْ صَارَ يَمْشِي مَعَهُ فِي سَلَامٍ، عَالِمًا أَنَّ أَعْظَمَ مَا يُرْزَقُ بِهِ الإِنْسَانُ هُوَ نُورُ الْمَعْرِفَةِ، وَطُمَأْنِينَةُ التَّسْلِيمِ، وَصِدْقُ الْعَيْشِ فِي حَضْرَةِ الْمَعْنَى.
اللَّهُمَّ يَا نُورَ النُّورِ، وَيَا مَنْهَلَ الْفَيْضِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ،نَسْأَلُكَ رِزْقًا يَسْتَيْقِظُ بِهِ الْفُؤَادُ قَبْلَ الْيَدِ،وَيَحْيَا بِهِ السِّرُّ قَبْلَ الْجَسَدِ،رِزْقًا لَا يُقَاسُ بِالْكِيلِ وَالْعَدَدِ، بَلْ يُقَاسُ بِالنُّورِ وَالْحَقِّ وَالْمَحَبَّةِ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الْمَعْرِفَةِ الَّذِي يُزِيلُ جَهْلَنَا،وَافْتَحْ لَنَا مَوَائِدَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُشْبِعُ أَرْوَاحَنَا وَلَا تَفْنَى،وَاجْعَلْ عِلْمَنَا نُورًا يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ، لَا حِجَابًا يُبَاعِدُنَا عَنْكَ،وَاجْعَلْ فُهُومَنَا رِزْقًا مُتَجَدِّدًا، كُلَّمَا أَنْفَقْنَاهُ زَادَ وَنَمَا.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الرِّضَا،أَنْ نَرْضَى بِمَا قَسَمْتَ، وَنَسْكُنَ إِلَى حِكْمَتِكَ،فَلَا نَفْتَقِرُ مَعَكَ وَإِنْ قَلَّتِ الْأَسْبَابُ،وَلَا نَطْغَى بِغَيْرِكَ وَإِنْ كَثُرَتِ الْأَرْزَاقُ.

طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَنَفُوسَنَا مِنَ التَّذَمُّرِ،وَاجْعَلْ تَسْلِيمَنَا لَكَ بَصِيرَةً لَا عَجْزاً، وَثِقَةً لَا غَفْلَةً.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الصِّدْقِ،صِدْقَ اللِّسَانِ فِي الْقَوْلِ، وَصِدْقَ الْيَدِ فِي الْمَعَامَلَةِ،وَصِدْقَ النِّيَّةِ فِي الطَّلَبِ.

بَارِكْ لَنَا فِي مَكَاسِبِنَا، وَنَقِّهَا مِنَ الْخِدَاعِ وَالْبُهْتَانِ،وَلَا تَجْعَلْ لِلْكَذِبِ سَبِيلًا إِلَى أَرْزَاقِنَا،فَإِنَّ الرِّزْقَ إِذَا فَسَدَ حَجَبَ النُّورَ، وَإِذَا طَابَ أَحْيَا الْفُؤَادَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الْعِفَّةِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ،أَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْأَسْبَابِ،وَأَنْ نَرَى الْخَلْقَ وُسَطَاءَ لَا مَصَادِرَ،وَأَنْ نَتَعَلَّقَ بِكَ أَنْتَ، يَا مُسَبِّبَ الْأَسْبَابِ.

أَغْنِنَا بِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ،وَاجْعَلْ يَقِينَنَا زَادَنَا، وَثِقَتَنَا بِكَ كِفَايَتَنَا.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الْجَسَدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ،لَا فِيهِ إِسْرَافٌ يُقَسِّي، وَلَا فِيهِ حِرْمَانٌ يُضْعِفُ،وَاجْعَلْ مَا آتَيْتَنَا قُوَّةً عَلَى الطَّاعَةِ،وَعَوْنًا عَلَى الْخَيْرِ، وَسَبِيلًا لِلْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ الْعَقْلِ الْمُنِيرِ،الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْوَهْمِ،وَيَزِنُ الْأُمُورَ بِالْحِكْمَةِ لَا بِالْهَوَى.

زِدْنَا فَهْمًا يَقُودُنَا إِلَيْكَ،وَلَا تَجْعَلْ مَعْرِفَتَنَا حُجَّةً عَلَيْنَا، بَلْ جِسْرًا إِلَى نُورِكَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقَ التَّكَافُلِ،أَنْ نَرَى فِي فَضْلِكَ أَمَانَةً لَا اسْتِئْثَاراً،وَأَنْ نَحْفَظَ إِخْوَانَنَا بِمَا فَاضَ عَنْ حَاجَتِنَا،فَيَكُونَ الْمَالُ رَابِطَةَ مَحَبَّةٍ، لَا سَبَبَ فُرْقَةٍ،وَيَكُونَ الْعَطَاءُ سُجُوداً صَامِتاً لِنِعْمَتِكَ.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِرِزْقِ الْكِفَايَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ،كِفَايَةِ الْجَسَدِ بِالْيَسِيرِ،وَاسْتِغْنَاءِ الرُّوحِ بِنُورِكَ الْعَظِيمِ.

وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّزْقَ رِحْلَةٌ إِلَيْكَ،تَبْدَأُ بِالصِّدْقِ، وَتَمُرُّ بِالرِّضَا،وَتَنْتَهِي فِي سَاحَاتِ النُّورِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْحَقِّ.
إِلَهَنَا، أَنْتَ الْمُعْطِي بِلَا حِسَابٍ،فَارْزُقْنَا مِنْكَ رِزْقًا يُحْيِينَا، وَلَا يُلْهِينَا،وَيُقَرِّبُنَا، وَلَا يُغْوِينَا،إِنَّكَ أَنْتَ النُّورُ، وَمِنْكَ كُلُّ رِزْقٍ، وَإِلَيْكَ كُلُّ الْمَصِيرِ.

@جميع الحقوق محفوظة