الزمن...نهر لا نعبره مرتين - الكاتبة أ. إيمان أبو شاهين يوسف
الكاتبة والباحثة الاستاذة إيمان أبو شاهين يوسف

يقول الفيلسوف الإغريقي هيرا قليطس:  

" الزمن هو النهر الذي لا نعبره مرتين ." 

فهل هذا القول صحيح؟ 

إن لم يكن هذا صحيحاً فما هو تعريف الزمن؟؟؟ 

هل الزمن هو شيء نقيسه بالعقارب والساعات، أم هو خيط خفي ينسج تفاصيل حياتنا ويسطِّر مراحلها دون أن نراه؟ 

هل الزمن حقيقة قائمة بذاتها ، أم مجرد وهم نستعين به لنقيس تغيّرات الحياة ونعطيها ترتيباً مفهوماً؟ 

أم هو حقّاً كما قال  هيراقليطس: أنه مجرّد نهر خفي يجري بنا بلا عودة؟ 

أسئلة عديدة تراودنا ، وكأننا من خلالها  نعرِّف الزمن دون ان نقول. وسِرّاً نهمس الى ذاتنا :  بأن "الزمن هو كل وقت  يمرّ في رحلة هذا  الوجود".  

بذلك نكون قد إختزلنا هذا الزمن في صورة ضيف عابر، أو نهر ينساب بلا رجعة، أو ريح لا تُمْس، أوَ طيفٍ شاردٍ يفلت من قبضة المعرفة. 

هذا هو ما نفهمه بالحسُّ: حركةً، وإنفلاتاً، وتبدداً. 

لكن التأمل الفلسفي يستبعد هذا التصور ليكشف عمقاً أبعد للزمن. 

فالزمن ليس ما يَعْبُر بنا فحسب، بل ما نتكون فيه وبواستطه. 

وهو ليس حادثة تقع ثمّ تنقضي، بل حالة وجودية خالدة، تبدأ من حيث تنتهي، وتعود لتبدأ على نحو آخر.

إنه صيرورة أزلية في دورة الوجود، حيث لا تكون اللحظة مجرد نقطة عابرة، بل التقاء البداية بالنهاية، وإنكشاف الأزل في صورة الآن... وهذا يعني بأن الزمن  ليس هو من يمضي أوينتهي، بل نحن الذين نعبر خلاله، نؤدي المشاهد والادوار ثم نختفي. 

وهو بالنسبة الينا أشبه  بمسرح  نؤدي عليه أدوارنا في مسرحية  الوجود، ونقدّم المشاهد التي تتبدل وتتنقل بشكل دائم من حال الى حال، بين الأفراح والأحزان والأحلام والإحباط. 

فمن كان دوره الخير والصلاح يترك وراءه على صفحة هذا النهر زمناً من الصلاح والتقوى، ومن كان دوره الظلم والفساد يترك وراءه زمناً من الشرّ والاستبداد. وهنا يتغير دور الزمن من وقت لتحديد رحلة الوجود، الى ذاكرة تجمع حكايات الحياة وأبناءها، فتحفظها في سرِّها وتدخلها في صيرورتها الأزلية حيث ينتفي الزمن. 

إذن ما هو جوهر الزمن؟ 

الزمن في جوهره نهر أزلي لا يعرف السكون، ينساب بلا بداية ولا نهاية، ويأخذ معه كل لحظة الى ما بعدها. 

لكن هذا النهر ليس وحده، فهو ممتد في المكان، ومرتبط بكل نقطة في الكون. كما علمنا أنشتاين؛ الزمن والمكان نسيج واحد، نسيج حيّ يتدفق مع كل حركة، مع كلّ نَفَس، مع كلّ نبضة قلب. 

كلّ لحظة، وكلّ مكان في الكون، يشترك في هذا التدفق الأزلي، بحيث يحمل كل مكان صدى كلّ لحظة، وكلّ لحظة تحفر أثرها في المكان. 

أما نحن، أبناء الإدراك البشري، فنحاول أن نلمس هذا النهر- الزمكان بأيدينا، فنقسِّمه لدقائق وساعات، وأيام وسنين، لنعيش فيه ونصنع معاني حياتنا. 

نقيسه لنخطط للرحلات، لنزرع الأرض، لنكتب ونقرأ، لنعيش ونتذكر، لنحبّ وننحب. 

لكن، كل تقسيم فيه هو ظل من الحقيقة، مجرد محاولة للانسجام مع تدفق الزمكان الأزلي الذي يسبقنا ويعلمنا الصبر والوعي. 

وهنا ندرك شيئاً أعظم: كل لحظة حقيقية ليست فقط مرور الزمن، بل حضور كامل في المكان، وكل مكان ليس فقط موقعاً، بل يحمل معه كل لحظة مرّت فيه. وعندما نعيش بتناغم مع هذا التدفق، تصبح حياتنا موسيقى متناغمة مع الزمكان الأزلي، حيث الفرح والحزن، العمل والراحة، الحب والفقدان، كلها أنغام للحن النسيج الأزلي للكون. 

وفي نهاية المطاف، نفهم ما قاله هيراقليطس: لا يمكن للإنسان أن يضع قدمه مرتين في نفس النهر. كل لحظة تتغير، وكل تدفق جديد يسبق ما سبقه ويأخذنا الى الأمام، فلا عودة الى الوراء، ولا توقف للنهر، بل الحياة نفسها حركة مستمرة، والزمن الأزلي لا يتوقف، وكل لحظة جديدة هي فرصة للاتحاد مع النسيج الأزلي للكون.

@جميع الحقوق محفوظة