الشوف: مرآة الجبل وذاكرة التوازن اللبناني:



بقلم فاروق غانم خداج كاتب وأكاديمي لبناني، 
باحث في قضايا الهوية الوطنية، وصاحب مقالات منشورة بالإنكليزية على منصّات ثقافية
 المصدر : موقعيّ Medium وSubstack.
سُمّيت منطقة "الشوف" بهذا الاسم، على الأرجح؛ لأنها منطقة تُطلّ على الساحل والسهل والبحر، بل ترى ما وراء ذلك. الجذر العربي لكلمة "شوف" يدلّ على الرؤية والمشاهدة، غير أنّ الذاكرة الشعبية أضفت على الكلمة أبعادًا إضافية، جعلت من "الشوف" ليس مجرد اسم، بل معنى. فالشوف في الخيال اللبناني هو مكان يرى ويُرى، موقع يرقب لبنان من علٍ، ويشهد تحوّلاته، ويُطلّ من علوّه لا ليتفرّج، بل ليفهم.
وهذا البعد الرمزي يتعزّز من خلال موقع الشوف الجغرافي: أرضٌ ترتفع على السفوح الغربية لجبل لبنان، تشرف على البحر وتمتدّ حتى أعالي الجبال، وكأنها عينٌ واسعة تنظر وتفكّر. 
من هنا، لم يكن غريبًا أن يحمل الشوف في تاريخه أدوارًا تفوق حجمه الجغرافي. ومن الشوف انطلق الأمير فخر الدين الثاني المعني ليُقيم أول مشروع لبناني للحكم الذاتي، عاصمته دير القمر، ورؤيته أبعد من الجبل. هناك، بين جدران القصور والمشاتل، جرت محاولات تأسيس كيان متعدد، يجمع بين المسيحيين والدروز، ويخاطب أوروبا من جبل لبنان. ومن الشوف أيضًا انطلقت طلائع الوعي الوطني في زمن الانتداب، كما اشتعلت فيه شرارات الحروب الأهلية، ثم اختُبرت فيه المصالحات.

قصر بيت الدين

وإلى جانب تاريخه العريق، يزخر الشوف بجمال طبيعي آسر، جعل منه وجهة سياحية وثقافية فريدة. من قمم الباروك ونيحا وبعقلين، إلى سهول مزرعة الشوف والدوير، تمتد الغابات والمساحات الخضراء بانسجامٍ يُبهج البصر. وفي قلب هذه الطبيعة، تقع محمية أرز الشوف، أكبر محمية طبيعية في لبنان، تضم بقايا الأرز اللبناني المقدس وتشكّل رئةً بيئية للبلاد، ومقصدًا للزوار والباحثين.
أما البيوت الأثرية القديمة المنتشرة في دير القمر وبيت الدين ومعاصر الشوف، فهي كنوز من العمارة اللبنانية التقليدية، بأقواسها ونوافذها الملوّنة وشرفاتها المطلة على التاريخ. القصور، ولا سيما قصر بيت الدين، ما تزال تحكي عن مراحل مضيئة من الحكم والإبداع، وتستضيف حتى اليوم مهرجانات ثقافية تُعيد إلى الشوف بريقه الفني والأدبي.

محمية أرز الشوف

وللشوف وجهٌ آخر لا يقل عمقًا عن تاريخه السياسي، وهو وجهه الروحي. فقد أنجبت هذه الأرض عددًا من كبار المشايخ والأولياء لدى الموحدين الدروز، وكانت حاضنة للتقوى والزهد والاعتكاف. في مغرها وجبالها العالية، اعتزل المتعبدون ونسجوا حكايات الإيمان الصامت، وفي قراها وبيوتها، وُرثت المجالس الدينية وعُقدت الحوارات الروحية العميقة. وكان الشوف دائمًا أقرب إلى "دير مفتوح على الأفق"، يجمع بين فكرٍ سماويّ وحضورٍ إنسانيّ. كما شهدت بلداته تلاقحًا نادرًا بين الرموز الروحية الإسلامية والمسيحية، ما جعله بحقّ أرضًا للقداسة، لا تنفصل فيها الجغرافيا عن الإلهام.

ولا يمكن الكتابة عن الشوف دون المرور بالبيت الجنبلاطي. فكما ارتبطت الشوف بفخر الدين في الذاكرة المعنية، ارتبطت بالزعامة الجنبلاطية في الذاكرة الحديثة. في المختارة، مركز القرار الجنبلاطي، تجتمع الحداثة السياسية بالتقليد العريق. منذ كمال جنبلاط، الذي أراد أن يُحوّل الشوف إلى منبر للفكر الاشتراكي – الروحي، وحتى وليد جنبلاط، الذي قاد أصعب مراحل الحرب والمصالحة، لم تكن الجنبلاطية مجرد زعامة، بل «بوصلة» للجبل.

والشوف في هذا السياق، ليس فقط بيئة حاضنة للزعامة، بل «مسرح» يجسّد عبره آل جنبلاط معاني السياسة المرنة، والتاريخ المتشابك، والتوازن الدقيق بين الانتماء والاختلاف. وقد شكّلت مصالحة الجبل عام 2001، برعاية البطريرك صفير ووليد جنبلاط، أحد أهم فصول هذا التوازن.

ورغم ما عرفه من انقسام، يبقى الشوف من أكثر المناطق اللبنانية التي يُشار إليها كمثال على العيش المشترك. ففي بلداته تختلط المآذن بالكنائس، وتتناقل العائلات المسيحية والدرزية قصص الجيرة قبل السياسة. وإذا كان لبنان كله «رسالة» كما قيل، فإن الشوف أحد أبلغ فقراتها.

قلعة نيحا

ولا يقوم التعايش في الشوف على شعار طارئ أو ترف ثقافي، بل على جذور تاريخية عميقة ضاربة في القرون. فمنذ عهد الإمارة المعنية، ثم الإمارة الشهابية، اختلط الدم بالعرق في بناء مجتمع متعدّد يعيش تحت سقف الجبل الواحد. في الشوف، لم تكن العلاقة بين الدروز والمسيحيين علاقة جيرة فحسب، بل علاقة شراكة في الأرض والتاريخ والمصير. تعايش الطرفان في القرى المتقاربة، تقاسموا المياه والحقول، وشهدوا الأفراح والأتراح معًا، في مواسم القطاف والشتاء الطويل.
ولئن عرف هذا التعايش اختبارات صعبة، خصوصًا في محطات من التاريخ الحديث، إلا أنّ جذوره القديمة ظلّت أقوى من الانقسامات العارضة. لقد كان الوجدان الشعبي في الشوف أكثر حكمة من الخطابات المتشنّجة، وأقدر على رأب التصدّعات، انطلاقًا من قناعة راسخة أنّ لا درزي بلا مسيحي في الجبل، ولا مسيحي بلا درزي يحفظ المعنى والوجود. واليوم، كما في الأمس، تستمر هذه العلاقة في الحياة اليومية: في المدارس المختلطة، في البلديات المشتركة، في المراكز الثقافية، وفي النسيج الاجتماعي الذي لا يزال يروي قصة شوفٍ واحد، بجناحين روحيين، لا يطير بدونهما.
وحين تتشوش الرؤية في لبنان، لا بدّ من العودة إلى الشوف. إلى هذا الجبل الذي يرى ويُرى منه، إلى ذاكرته التي لا تنسى، وإلى قدرته العجيبة على امتصاص الأزمات وإنتاج التسويات. في زمنٍ يتخبّط فيه الوطن في أزماته الوجودية، يبدو الشوف كأنّه يُذكرنا بما هو ممكن، بما اختبره وتجاوزه. ففيه التعايش لم يكن شعارًا، بل تجربة محفوفة بالدم حينًا، وبالغفران حينًا آخر.

بلدة بتلون 


ختامًا: الشوف يراقب، ولا يتورّط سريعًا، لكنه لا يقف على الحياد حين تحين لحظة القرار. من المختارة، من بعقلين، من دير القمر، من نيحا، من معاصر الشوف وبيت الدين، من بتلون وكفرنبرخ والباروك، يكتب الشوف فصله الخاص في الرواية اللبنانية، بحبرٍ قديمٍ وحديث، لا يتبدّل مضمونه: لبنان ليس ممكنًا دون الجبل، ولا جبل يُفهم دون الشوف.


@جميع الحقوق محفوظة