الشيخ محمد أبو شقرا: حكمة المدى وتوحيد المسافات


رجل جمع بين الدين والدولة، بين التواضع والهيبة، فصارت بصمته علامة على زمن ندر فيه أمثاله:
"ثبّتوا أقدامكم في الأرض، وارفعوا قلوبكم إلى السماء."— الشيخ محمد أبو شقرا


بقلم: 

فاروق غانم خدّاج 

 كاتب لبناني يكتب بالعربية والإنجليزية، له إسهامات فكرية وأدبية في مجالات الهوية والروح والانتماء.(نُشرت هذه المقالة بالانكليزية على موقعي medium و substack


في صفحات التاريخ الحديث للطائفة الدرزية، يسطع اسم الشيخ محمد أبو شقرا كأحد أبرز رموزها الدينية والوطنية، جامعًا بين عمق الإيمان وسعة الفكر، وبين تراث الأجداد ومتطلبات العصر.

لم يكن مجرد "شيخ عقل"، بل كان رجل رؤيا واحتضان، لما تحلى به من حكمة واتزان، ودور ريادي في تعزيز السلم الأهلي، وتثبيت دعائم التعايش، ودفع الطائفة نحو التقدم والاعتدال.


الوراثة الروحية والتنشئة الصوفية:
ولد الشيخ محمد أبو شقرا في بيت من بيوت العرفان والعلم، حيث نشأ في كنف عائلة عُرفت بالتقوى والوجاهة. منذ نعومة أظفاره، تلقى علوم الدين وتشرّب مبادئ المذهب التوحيدي، وتدرّج في سلم الفهم الروحي حتى غدا مرجعًا يُحتكم إليه في الملمات.


دوره كشيخ عقل:
تبوأ منصب شيخ العقل في حقبة دقيقة، فحمل الأمانة بثبات ونزاهة، ومارسها بروح الإصلاح والانفتاح. لم يكن رجل دين فحسب، بل كان رجل دولة وحوار، يسعى إلى تقريب وجهات النظر، ويعمل على حفظ وحدة الصف الدرزي في لبنان والشتات. وقف إلى جانب قضايا الناس، وجعل من موقعه منبرًا للحق وصوتًا للاعتدال.


حوار في قلب اللّبنانية والإسلام
لم يكن الشيخ محمد أبو شقرا منغلقًا على مهام الطائفة، بل كان حواريًا بالفطرة، يُدرك أن الدين الحقيقي يتجاوز المتاريس، ويتجلّى في تفاعل عميق مع المحيط. كما يتداخل الخيط في نسيج السجاد الشرقي، كان يُدرك أن الطائفة لا تنمو إلا داخل الفسيفساء اللبنانية، وأن الإسلام الرحب هو الإطار الروحي الذي تتفتّح فيه المعارف وتزدهر فيه التجربة.
كان يؤمن أن التوحيد لا يعني العزلة، بل الانخراط في الكل الوطني والإسلامي، دون ذوبان أو تصادم. التقى بالعلماء المسلمين، شارك في المؤتمرات الروحية، وفتح أبواب مشيخة العقل للحوار. لقد رأى في الإسلام بحرًا يمكن أن يُبحر فيه الجميع بلا غرق، وفي لبنان ساحة يمكن أن تُعاد صياغتها بنفَس روحي جامع، لا بالإقصاء بل بالاحتضان.
وفي هذا السياق، لم يكن الشيخ مجرد زعيم ديني، بل رائدًا في إعادة تخيّل العلاقة بين الدين والوطن، بين الذات والآخر، بين الإيمان والعيش المشترك. فهم أن الهوية ليست سجنًا، بل دعوة للعبور نحو الآخر، بلا تفريط ولا فجور.

 دار الطائفة الدرزية في بيروت

إنجازات خالدة:
1. تأسيس دار الطائفة الدرزية في بيروت:يُعد هذا الصرح من أبرز إنجازاته، حيث جعله مركزًا رسميًا للطائفة في قلب الدولة اللبنانية، وملتقى للعلماء والقيادات.
2. رعاية مستشفى عين وزين:دعم ووسّع هذا المستشفى، ليصبح من أبرز المؤسسات الصحية في الجبل، يخدم جميع اللبنانيين ويُعرف بجودة خدماته وإنسانيته.
3. ترسيخ وحدة الصف الدرزي:عمل على جمع أبناء الطائفة وتجاوز الانقسامات السياسية، من خلال خطاب جامع ومواقف مسؤولة.
4. المصالحة الوطنية:ساهم في تحقيق العديد من المصالحات بين مكوّنات الوطن، محافظًا على السلم الأهلي والعيش المشترك.
5. دعم التعليم والثقافة:آمن بأن العلم هو سبيل النهوض، فشجّع على التحصيل العلمي، وساهم في دعم المدارس والمبادرات التعليمية.
6. التمثيل الديني والوطني:مثّل الطائفة الدرزية بحكمة ووقار في المحافل الرسمية والدينية، فكان صلة وصل متوازنة بين مشيخة العقل والدولة.
7. العناية بالشتات:لم يغفل أبناء الطائفة في الاغتراب، بل ظلّ مرجعًا معنويًا وروحيًا لهم، حريصًا على إبقاء الجذور حيّة والروابط متينة.
8. إحياء الخلوات وتطوير المؤسسات الدينية:رمّم ورعى العديد من الخلوات الدرزية، مع الحفاظ على قدسيتها وانفتاحها في آن، فبقيت منارات للتقوى والتجديد.

خاتمة
الحديث عن الشيخ محمد أبو شقرا لا يفيه مقال واحد. إنه علم من أعلام لبنان الروحيين، وراية خفاقة في سماء التوحيد والتسامح. ترك إرثًا من المواقف النبيلة، والوصايا الجامعة، والسير الحكيم. سيبقى في الذاكرة شيخًا للعقل والقلب، وواحدًا من أولئك الذين وسّعوا فينا معنى الزعامة الروحية، لا بصوت عالٍ، بل بصدى الحكمة.

@جميع الحقوق محفوظة