
الكاتبة والباحثة الاستاذة
إيمان ابو شاهين يوسف
يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور:
" الرغبة العمياء تحرِّك كل الكائنات بلا منطق او غاية، فتجعل الإنسان عبداً لها.
كلّ ما حصل عليها يُبدِّد عطشه لفترة قصيرة، ثمّ يولد له شغف جديد يعيده الى دائرة السعي المستمرة، وكأن الحياة نفسها لا تعرِف الراحة."
في أعماق النفس الإنسانية يختبئ كائن غامض اسمه "الرغبة". يولد مع الإنسان كما يولد ظلّه، يُرافقه في يقظته وفي منامه، يهمس في أذنه كما يهمس النسيم في عمق الصباح.
هذه الرغبة تبدو في ظاهرها طاقة للحياة، لكنها في جوهرها مكرٌ خفيّ، تُلْبِس القيد ثوب الحرية، وتغوي الأنسان أنه يسعى نحو النور، بينما هو يقترب من ظلمات نفسه.
لذا يرى شوبنهاور أن الرغبة هي أصل الألم عند الإنسان، لأن كلّ ما يشتهي يتحوَّل عنده فورا الى حاجة وعوز، والعوز هو أشدُّ أشكال العذاب.
والإنسان ما أن يحقق رغبة حتى تولد أخرى على بقايا رماد ما سبق، كما لو أن في داخله ناراً ملتهبة.
تلك النار هي ذاتها التي وصفها القدماء بأنها لهيب الشيطان في قلب الإنسان، لا تُحْرِق الجسد بل تُلْهِب الوعي وتشوِّه صفاءه.
لذا فالشيطان في رمزيته الممتدة، ليس كائنا منفصلاً يجيء من خارج الأنسان ، بل هو صوت الرغبة حين تتزيّا بلباس الحرية والسعادة وتقول للإنسان :"اشته لأن في الإشتهاء وجودك".
بينما في الحقيقة أن كلَّ اشتهاء يُضيف مسحة سوداء في صفاء الروح... ولا يعود للروح صفاءها إلا متى تلاشت هذه الرغبة وتحرّر الإنسان من قبضة "الشيطان الداخلي" ووصل الى سلام يشبه الصفاء النوراني، حيث تختفي الحدود بين الذات والعالم، ويصبح كلّ شيء انعكاساً واحداً للوجود، بلا رغبة ولا خوف. يقول افلاطون: أن الرغبة جزء من النفس، لكنها تحتاج الى توجيه العقل لتجنب الفوضى. أما شوبنهاور فيعود ليذكرنا: أن الرغبة هي سلّم الصعود الى العالم، لكنها أيضا الهاوية لمن يظنها خلاصاً. من رحمها تولد الفنون والأحلام والإكتشافات، ومن صلبها تخرج الحروب والطغيان والدمار. هي سيف ذو حدّين: أحدهما يفتح أفق الإنسان، والآخر يشقُّ قلبه.
وعندما يعود الإنسان الى نفسه في لحظة من السكون، يُدْرك أن الشيطان لم يكن يوما خارجه، بل كان تجسيدا لرغبته حين تنفصل عن العقل وتتمرّد على النور. عندئذ يفهم أن الخلاص ليس في قمع الرغبة، بل في تهذيبها وتحويلها من لهب يُحرِِق، الى نور يُضيء ويهدي. والحرية الحقيقية لا تولد من الرغبة، بل من التخلّص منها.
والخلاص عند شوبنهاور لا يتحقق إلا بنفي الإرادة - أي كبح الرغبة وتجاوز الدافع نحو الإمتلاك والرغبة. لكن "نفي الإرادة" لا تعني عنده قتل الجسد والإنتحار، بل يعني تحولاً داخلياً في الوعي يجعل الإنسان يرى العالم كما هو، لا كما تمليه عليه رغباته.
وأخيراً نقول:
أيها البشر كفّوا عن عبادة رغباتكم، فقد خنقتم الجمال في صدوركم...لا تدعوا صوت الضمير يغرق في صمتكم. عودوا الى منطق العقل، واعترفوا بحق الأرواح ان تتنفس السلام والأمان، قبل ان تذبل آخر زهرة في حديقة الوجود.
@جميع الحقوق محفوظة