لم يعد غيابك أمرًا خارجيًا.
لم يعد شيئًا يحدث لي… بل شيئًا يحدث فيّ. غبتَ، ثم امتدّ ظلك داخل أضلعي، كأنك لم تكن يومًا شخصًا، بل نوعًا من السواد الداخلي، ذلك النوع الذي لا يُرى في الأشعة، لكنّه يُعطّل كل أنظمة الحنين.
منذ اختفيت، وأنا أعيش معك كما لم أكن أعيش بك. أراك في الأكواب الفارغة، في الكراسي التي لم يجلس عليها أحد، في عينيّ حين أرى انعكاسي ولا أعرفني.
أراك في لحظة النوم بالذات، عندما يغلق عقلي الأبواب، ويظلّ قلبي ينتظر طَرقَتك.
ثمّة شيء خبيث في الطريقة التي تختبئ بها داخلي. تُغيّب ملامحك عني، لكنك تترك صوتك كصدى داخل جمجمتي، يتكرّر كأن أحدًا يناديني ولا يصل إليّ.
هل تعرف أنني كتبت لك ألف رسالة، ولم أرسل واحدة؟
كنت دائمًا أتراجع في آخر لحظة…ليس لأنني لا أريد أن تصلك، بل لأنني أعرف أنك لن تفتحها.أعرف أنك أصبحت تجيد تجاهلي، حتى لو وصلتك الكلمات على هيئة زلزال.
كنتُ أكتب لك من منفى داخلي، حيث لا بريد، لا صندوق، لا طوابع، لا موظف استقبال.كنت أرسل لك أحزاني عبر الريح، أحمّلها على أجنحة الغبار، وأرجو أن تمرّ بجانبك يومًا، فتجعلك تشهق.
كنت أريد فقط شهقةً واحدة منك… تدلّ أنك شعرت بي.
لكنك لم تشهق.
ولا حتى حين كتبتُ لك في ليلةٍ كاملة على جلد يدي، وظلّت يدي ترجف لأيام بعدها، كلما تذكّرت أنني عارية منك.
أتعلم؟ أحيانًا أشك أنك كنت حقيقيًا. أقول لنفسي إنك كنت فكرة، اختراعًا شعوريًا لصنع شيء يُخيفني أكثر من الوحدة: الأمل.
ربما أنت مجرد رمز. رمز لكل الذين غادروا في منتصف الجملة، وتركوني أبحث عن نقطة النهاية وحدي. رمز للذين قالوا "أنا هنا" ثم تواروا خلف ضجيج الحياة، كأنهم لم يقولوا شيئًا.
ورغم كل هذا، ما زلت أكتبك.
أكتبك لأنك الغياب الوحيد الذي يجيد الإصغاء.
في حضرة الغائب، لا أحد يقاطعك. لا أحد يصحّح لك لغتك. لا أحد يسألك: "هل تجاوزت؟"
كلما حاولت أن أنساك، دخلتُ في طقس الكتابة. وكلما كتبت، أدركت أن الكتابة ليست علاجًا، بل تفاقمٌ متأنٍّ للحالة.
أنا لست بخير، لكنني قابلة للقراءة. وأنت لست هنا، لكنك مقروء جدًا، داخل نصوصي، وفي أهوال فراغي.
لم أعد أنتظر عودتك. أنا فقط… أكتب لأتأكد أنني ما زلت أملك يدًا، قلبًا، وذاكرة، حتى وإن كنت أعيش كل يوم... كأنك لم تغب قط.
هند محسن - جمهورية مصر العربية