القمر والبئر

  ايمان ابو شاهين يوسف -  

رأيت البئر ملهوفاً يجمع نفسه لاستقبال ضوء القمر وهو يقول: طال انتظاري ومائي عكرة، متى سيطلّ علينا ضوء القمر؟؟؟ 

فقلت في نفسي: ما حاجة ماء البئر لضوء القمر؟؟؟ 

خرير مياه البئر بدأ يرتفع مترافق مع حركة نشيطة لحبيباتها وهي تقول: رحمة الله واسعة، بدأت خيوط النور تصل الينا والقمر في طريقه نحو البئر. فلتنهض جميع قطرات ماء البئر لتستحمّ بشعاع ضوء القمر وتغسل عنها كل أثار الوحول العالقة على اجسادها حتى تلاقي القمر بكلّ طهرٍ وصفاء. 

راحت قطرات المياه تعبُّ عبّاً من حرارة ضوء القمر، فتزيد حركة ونشاط، كما تزيد صفاء ونقاء، حتى بدت وكأنها قطعة ماسية تبهر بجمالها كلّ من ينظر اليها.

 لحظات قليلة وبدأ كل شيء يأخذ مكانه في البئر بكل هدوءٍ ورصانة، فارتفعت المياه الصافية تطفو على سطح البئر، لتنخفض كل الرواسب والأتربة وتستقرّ في قعر الهوة. 

أمّا القمر فكان صراعه مريراً، وهو الذي يتباهى بجماله وغنجه ودلاله، حتى أصبح استعارة لكل شعراء الأرض في وصفهم لجمال حبيبتهم الفاتن كما وان كل أغاني الحب تردد كلمة يا قمر... 

هذا القمر رغم كلّ حسنه وجماله، لم يستطع يوما ان ينافس النور بمسابقة " الجري السريع"، وكان يحاول عبثاً ان يصل البئر قبل وصول ضوئه، لكنّه عبثاً يحاول، حتى أنه صار يشعر بالغيرة من هذا الضوء ظنّا منه أنه ينافسه في مباراة الجمال. 

مع وصول القمر الى موقع البئر كان كلّ شيءٍ هادئ وساكن والطبيعة كلّها خاشعة تصلّي لعظمة الخالق وقدرته الواسعة.

 فرح القمر فرحاً عظيما وظنّ بان هذا التأمل وهذا الخشوع ليس إلاّ تقديرا وإجلالا لبديع رونقه وجمال إطلالته، مما جعله يدور في صفحة السماء مزهوّاً فخورا ليثبت أخيرا في النقطة المقابلة لماء البئر الصافي يبتسم ويفتخر بمرأى وجهه المضيء، ثمّ يرسل ايحاءات وإشارات تدل على شدة اعجابه بصورة وجهه الفاتن في مرآته المفضلة وراح يقول: قولي لي ايتها المرآة الصادقة هل يوجد بين مخلوقات الأرض من هو أجمل وجها وأكثر شبابا ونضارة مني؟؟؟ 

ثمّ تنهّد وكأنه يريد أن يعترف لمياه البئر الصافية بأهمية وجودها ودورها في حياته وراح يقول همساً: 

أيها البئر العظيم، لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك ومن دون صفحة مياهك الصافية التي هي مرآتي التي تؤكد لي ثقتي بنفسي وتعترف لي بجمالي وبهائي، فتفرح قلبي وترضي غروري، فأسير مختالا في السماء متباهيا متعالياّ على كل نجوم وكواكب هذا الوجود. لا يسعني أيها الصديق الصدوق إلاّ ان أدعو لك بدوام بقائك وغزارة ينبوعك وصفاء مياهك وبذلك تعيش فرح الحياة وتضمن لي سعادتي وشبابي.

 بعد ان استمع البئر لهذه الهمسات الرقيقة التي كانت تصله مع تنهدات القمر شعر بفرح وفخر كبير، لكنه وقع في حيرة وشغلة بال وراح يسأل:

 من يا ترى أكثر حاجة منّا إلى الآخر؟ هل أنا، من ينتظر القمر بفارغ الصبر لكي يرسل ضوءه الى مياهي ويدبُّ الدفء بها لتصبح أكثر نشاطا وحركة فتغتسل من اوساخها وترتفع صافية شفّافة يشرب منها كلّ سائل وعابر؟؟؟

 ام القمر الذي يرى في مياهي مرآته التي ينظر بها الى نفسه، فيُسرُّ قلبه ويمتلئ ثقة وعنفوانا، فيزيد اشعاعا ونورا وضياء؟؟؟ 

استفاقت الطبيعة على صوت همسات القمر وتساؤلات البئر الحائر، رفعت رأسها وارتسمت على ثغرها بسمة الحكيم العارف وبكل لطف وحبٍّ وهدوء راحت تقول: أيّها البئر الكريم لا تدع الحيرة تغزو رأسك وانت من خبر الحياة وأبناء الحياة، فعشت أياما يدفق منك الخير دفقا وكنت مصدرا للحياة، كما عشت أيام قحطٍ تنتظر غيث السماء ليطفئ عطشك، وهكذا يا عزيزي فكلّنا في هذا الكون خلقنا ليكون بعضنا عونا لبعضنا الآخر، ووجود أحدنا يضمن وجود الآخر، وإن اختلفت أدوارنا في هذا الوجود فإنها محكومة بالتكامل، وكما يقول المثل : اليد تغسل الأخرى والاثنتان تغسلان الوجه لذا عليكم بمساعدة بعضكم بعضا فواحدكم ليس وحيدا في الطريق بل هو جزء من قافلة تمشي نحو الهدف.