بقلم: فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني.
في رُكنٍ من الزمن لا يراه إلا من يُصغي لنداء الروح، تقف "الليالي العشر" عند أبناء الطائفة التوحيدية الدرزية، كفسحة تأمل، وبوابة خفيّة إلى معنى أعلى.
لا تُعلن كالمواسم، ولا يُقرَع لها طبل، بل تُعاش في القلب، وتُحيا في السكينة، بعيدًا عن الصخب والمظاهر.
توافق هذه الليالي، بحسب التلقّي الرمزي والمعنوي، أواخر شهر ذي الحجة، وتستمد رمزيتها من القسم الإلهي في مطلع سورة الفجر:{والفجر * وليالٍ عشر}.
لكن الموحدين، بما تميزوا به من خصوصية في المسلك الإيماني، يتلقّون هذه الأيام لا كتقليد موسمي، بل كفرصة سنوية لتجديد العهد مع النقاء الداخلي، واستحضار جوهر التوحيد الذي يفيض صدقًا وخشوعًا.
لا طقس يُفرض، ولا عبادة علنية تُقام، بل دعوة للصمت الجميل، والتطهّر من شوائب النفس، واستحضار معاني الصدق، والوفاء، والتواضع. بعضهم ينزوي بعيدًا عن ضجيج الحياة، وآخرون يزورون الخلوات، أو يكتفون بجلسة صفاء على شرفة تطلّ على الجبل، وكلّهم يحملون في قلوبهم نية التقرّب، لا من باب الخوف، بل من باب الحبّ.
ليست هذه الليالي حدثًا اجتماعيًا، بل زمنًا يتجاوز التقويم، تعيشه الروح كأنها تسافر نحو نورٍ داخليّ، تتخفّف فيه من أعباء الكلام، وتسمع فيه صدى الضمير. لذلك، لا ترى فيها احتفالات، بل ترى أثرها في سلوك الموحد الحقيقي، حين يُفضّل الصدق على المواربة، والصفح على الانتقام، والنُبل على الادّعاء.
لقد درج الموحدون الدروز، على مرّ الأجيال، أن يصونوا قدسية الإيمان في سرائرهم، فيُحيوا القيم لا بالشعارات، بل بالسيرة.
والليالي العشر عندهم، ليست موسماً عابرًا، بل محطة يتوقّفون فيها عن الركض، يراجعون فيها أنفسهم، ويُعيدون ترتيب أولوياتهم الأخلاقية.
هي ليالٍ لا يُضاء لها فانوس، بل تضيء هي من الداخل، حيث تخفت ضوضاء الخارج، ويعلو نور النية الصافية.
ولـ"الليالي العشر" وقعٌ خاصّ في قلوب رجال الدين الموحدين، الذين يرون فيها فرصة نادرة لتقوية العهد، وتثبيت الهمّة، وتوريث السكينة.
يُروى عن الأمير السيّد عبد الله التنوخي (ت 884هـ / 1479م)، الإمام المرجع والقدوة العليا لدى الموحّدين الدروز، أنه كان يُكثر فيها من التأمل والانكفاء، ويحثّ على صفاء النية، ويُشعّ من حضوره نور الرضى. لقد تميّز السيّد، وهو من أنبل أعلام التوحيد، بسعة علمه ودقة فكره، وكان يرى في هذه الليالي ميثاقًا سنويًا يجمع الإنسان بخالقه في صمتٍ شفيف لا تعرفه الطقوس.
أما الشيخ الفاضل محمد الكوكباني، العالم الزاهد من بلدة كوكبا، فقد ترك في شرحه للخصال الحميدة بصماتٍ دالّة على عمق تجربته الروحية. كان يرى في الليالي العشر لحظة ارتقاء تتكرّر كل عام، يخاطب فيها السالكين بأن يسيروا بخطى خفية نحو النور، ويجعلوا من هذه الليالي مرآة للنية وصفاء السريرة.
لم يكن الشيخ الكوكباني من الوعاظ، بل من أولئك الذين يعلّمون بالحضور والسكينة، وكان يؤمن أن الصمت المدروس أبلغ من كثير من القول.
في هذه الأيام، يتوسّم العامة البركة، ويعيشون نوعًا من التهيؤ الداخلي للانطلاق نحو حياة أكثر اتزانًا وسكينة.
فالليالي العشر ليست فقط موسمًا للذكر، بل فسحة لتجديد الروح، وتحويل النية إلى عمل، والخشوع إلى خُلق.
وتُختتم هذه الليالي المباركة بـعيد الأضحى، الذي يُمثّل العيد الأكبر عند الموحدين الدروز، لا بمظهره الخارجي فحسب، بل بمضمونه الإيماني العميق. إنه عيدُ القُرب، عيدُ التسليم، عيدُ العهد مع الله ومع النفس. رمزيته أن تُقدّم أثمن ما تملك – لا من الماشية، بل من الكبرياء والهوى – قربانًا للصفاء. إنه فرحٌ بعد تطهير، وبهجةٌ بعد صدق، وبداية جديدة لمن شاء أن يبدأ من الداخل. وهو مناسبة يتبادل فيها الناس المعايدة والدعاء، لا باللفظ فقط، بل بالسلوك النبيل.
{والفجر * وليالٍ عشر} – سورة الفجر، 1–2.
في اللغة:الفجر: أول خيطٍ من النور يشقّ الظلمة.ليالٍ عشر: تنكير يفيد التعظيم، ويُشير إلى أيام مخصوصة بالبركة.
في الدلالة:هي أيام صفاء معنويّ، لا تقترن بالطقوس، بل تُعاش كبوابة نحو الذات، حيث يُصبح الصمت عبادة، والتفكّر سلوكًا، والنية عنوانًا لكل عمل.
في الختام، لا يسع القلم إلا أن يهمس:طوبى لمن جعل من كلّ ليلةٍ عشرًا، ومن كلّ فجرٍ بداية جديدة، ومن كلّ صمتٍ لقاءً صادقًا مع نفسه.
@جميع الحقوق محفوظة