المحبّة في شريعة الغاب
إيمان أبو شاهين يوسف
الجوّ صافٍ والشّمس مشرقة، وكلّ حيوانات الأرض خرجت لتستقبل فصل الرّبيع.

الصّغار يلعبون ويمرحون، العُجّز يفترشون الأرض ويتسامرون، أما الشّباب من ذكور الحيوانات وإناثها وجدوا في هذا الجوِّ الدافئ فرصةً جيدةً للصّيد والعمل. 

أخذت كلّ جماعةٍ من الحيوانات تجمع قواها وتستعدّ استعداداً كافياً للنّجاح في رحلتها، وراحت تتحلّق في مجموعاتٍ وصفوف، مطلقةً أصواتاً تخيف السّامعين، ثمّ انطلقوا منتظمين في جماعاتٍ وأفراد.

 توجّه الجميع إلى الصّيد، وكان من بين هذه المجموعات جماعةٌ من الذّئاب، وهم الذين اشتهروا بالشّجاعة والقوّة واحترام شريعة الغاب.

 القاعدة عند الذّئاب بأن ينطلق الجميع في اللّحظة ذاتها، مع محافظة كلّ واحدٍ منهم على موقعه بالنّسبة للمجموعة، ومن يتخطّى حدوده أو يخالف السّنن والقوانين المتّبعة كان مصيره الموت، ويصبح فريسةً لباقي الذّئاب، فيقطّع إرباً وينهش لحمه نهشاً، حتى لا يبقى منه سوى ما لا يمكن كسره من العظام. 

جماعة الذّئاب هذه راحت تسابق الرّيح في مطاردةٍ شرسة لظبيةٍ قصّرت عن قطيعها، فتحوّلت هدفاً للمتربّصين المفترسين.. فهي تجري وتجتهد في الرّكض محاولةً الخلاص، وهم يتبعونها بهمةٍ وإصرار. 

كاد الجميع أن يهلك من شدّة التّعب، لكنّهم استمروا في سعيهم حتى تحقيق الهدف.. فجأةً توقفت جماعة الذّئاب عن متابعة الظّبية الشّاردة، ولشدّة السّرعة التي كانوا عليها في عدْوِهِم حُفِرَت الأرض حفراً تحت أقدامهم عند توقفهم المفاجئ، والكلّ في حالةٍ من الغضب والاستياء، لأن ما شاهدوه هو من أكبر الجرائم بحسب شرعهم وسننهم. 

"ذئبةٌ مراهقة تجلس مع مراهقٍ من جماعة غير جماعة الذئاب، وتتبادل معه لغة الحبّ والإعجاب"..  يا للعار..  لقد جنّ جنون الذّئاب وانقلب عواءهم نباحاً، وراح كلّ واحدٍ منهم يقدّم نفسه بطلاً قادراّ على غسل العار وقتل هذه الذّئبة الّلعينة التي لم تحترم قانون الذّئاب. 

حاول الوالد التّبرير لابنته الصّغيرة، والطّلب من جماعة الذّئاب مسامحتها قائلاً لهم: إنها ما زالت طفلة ولا تدري ماذا تفعل.. قليلاً من الرّأفة بها سوف يجعلها تفهم خطأها وتصحّح ما أقدمت عليه.. لكنّ الذّئاب لم يعيروا كلام الوالد الذّئب أيّ اهتمام، بل عيّروه بأنه لم يحسن تربيتها، وهجموا عليه وراحوا يغرسون أنيابهم وأظافرهم في جسمه الذي راح يتهالك حتى سقط جريحاً.. وظلّ يعاني من جروحه والدّم ينزف منه نزفاً بطيئاً إلى أن مات شهيد الدفاع عن الأبرياء.

 الأمّ كانت مدركةً لوحشية الذّئاب وكانت تعلم جيداً نهجهم وعاداتهم، لذا كانت على يقين أن اللّين والضّعف وطلب الرأفة والرّحمة لا يجديان نفعاّ .. فافترقت عن القطيع بسرعةٍ تسبق فيها سرعة البرق وأخذت ابنتها وراحت تختبئ في وكرٍ مرتفعٍ في أعلى الصّخور كان سابقاً لأحد الأسود.

 ولأنّ الغابة مليئةٌ بضحايا الوحشية والوحوش فإن ما تبقى منها من جلود وعظام منتشرة في كلّ زاويةٍ وناحية، سمح لهذه الأم بأن تجمع ما تحتاج منها لصنع ثوبٍ لها وآخر لابنتها بزيّ أسد.. ثمّ راحت تدرّب صغيرتها بقسوةٍ على فنون المواجهة والقتال، كما ترشدها إلى فهم أمور الحياة وكيفية التوفيق بين القناعة الخاصة والمفهوم العام، مع التّركيز على المثابرة في جمع المعرفة وحسن أداء العمل، وقالت لابنتها: يا ابنتي إن ما يمنعك العقل عن القيام به لا تسمحي للعاطفة أن تخضِعك له.. وإذا خانتك قيم القوانين والمبادئ، حاولي ألا تخونك قيم الكرامة والكبرياء.. ولأنّي أمّك والأعلم بك وبجوهرك الطيّب طيبة الأنقياء الأتقياء قرّرت أن أبقى إلى جانبك ليس من أجل الدّفاع عنك، بل لكي أشدّ من عزيمتك، وأقوّي شكيمتك وأزيدك علماً ومعرفةً فيكون ذلك سلاحاً لك يرافقك في دروب الحياة.

 أمّا جماعة الذّئاب وبعد أن لحقت بهذه الذّئبة المراهقة لأخذ الثأر وقتلها وتقطيعها إرباً إرباً، راحت تجول وتصول في كلّ أطراف الغابة، دون أن تجرؤ على التّقدم نحو ذلك الوكر الذي كان يسكنه أسد، فلم تعثر على أثرٍ لتلك الصّغيرة.. لذا راحت تستعين بفريق أكبر من الذّئاب للمشاركة معها في البحث والتّقصّي، وبدأت تطلق عواءها في كلّ صوبٍ واتجاه، مما دفع بالأم الذئبة إلى أن تخرج من فتحة الوكر وهي ترتدي زيّ الأسد وتقف في أعلى الصّخرة الشّاهقة العلوّ، وتطلع من صدرها زمجرةً كزئير الأسود. 

 كان يبدو على وجهها علامات الرفض والغضب، كما كان يبدو من حركة جسدها الاستعداد للقتال والمعاركة.. شاهد الذّئاب هذه الّلبوة الغاضبة المستنفرة للمنازلة والقتال فقالوا فيما بينهم: نحن لا نسعى للقتال مع الأسود.. بل نفتّش عن تلك الذّئبة الصّغيرة التي نابها لا يقطع، وظفرها لا يجرح، لنقدّمها ضحيّةً على مذبح عاداتنا وتقاليدنا، وهي التي سمحت لنفسها بأن تخاطب غير جنس الذّئاب.. فنبيّض صفحتنا بعيون الآخرين دون أن يراق لنا دماً أو أن نخسر منّا شهيداّ .. بينما القتال مع هذه الّلبوة المفترسة قد يكبّدنا الخسائر الكبيرة وينغصّ علينا طيب الحياة.

 تشاور الذّئاب فيما بينهم وقرّروا الانسحاب لينصرف كلّ واحدٍ منهم إلى متابعة شؤون حياته الخاصّة.. كذلك انصرفت الذّئبة الصّغيرة لتحصين نفسها بالعلم والعمل، وارتقاء أعلى مراتب المحبّة والإخاء. وجعلت شعارها في هذه الحياة: القَدَرُ لا يهزِمُه غير الشَجاعَةِ  .