بقلم: الأستاذ الشيخ فاروق غانم خداج
(مدرس ومنسق، كاتب وباحث لبناني،
له مساهمات عديدة باللغتين العربية والإنكليزية)
المغتربون الموحدون (الدروز) في أميركا:
بين التمسك بالهوية وتحقيق الحلم
مقدمة:
شهدت الولايات المتحدة الأميركية منذ نهايات القرن التاسع عشر تدفّق موجات من المهاجرين القادمين من بلاد الشام، وكان أبناء الطائفة الدرزية جزءًا فاعلًا من هذا الحراك الكبير. حملوا معهم تراثهم العريق، وإرادتهم الصلبة لبناء مستقبل يليق بكرامتهم. وفي مدن المهجر، خاضوا تجربة غنية تمزج بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على عالم جديد.
الانطلاقة الأولى
وصل المغتربون الدروز إلى المرافئ الأميركية مثقلين بآمال كبرى وهموم ثقيلة. استقرّ كثير منهم في مدن كبرى مثل نيويورك وديترويت وغيرها، حيث عملوا في التجارة، والمهن اليدوية، والصناعات الخفيفة.رغم قسوة البداية، كانت حياتهم مفعمة بالأمل. لم تقتصر تحديات الغربة على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل شملت أيضًا تحدي الحفاظ على الانتماء الثقافي والديني في بيئة مغايرة تمامًا.
الموحدون الدروز، الذين تعرضوا للاضطهاد والتهميش في بلاد الشام، خاصةً في سوريا (السويداء) خلال الثورة الكبرى عام 1925، وجدوا في الولايات المتحدة متنفسًا للحرية، ومجالًا لتحقيق ذواتهم اقتصاديًا وعلميًا، فضلاً عن دعم إخوانهم في الوطن الأم للخلاص من الفقر والحرمان.
الحفاظ على الهوية الثقافية وصيانة المعتقدات
رغم بُعد المسافات وتعدد الثقافات المحيطة، نجح الموحدون الدروز في الحفاظ على خصوصيتهم الدينية والاجتماعية. أنشأوا الجمعيات والأندية، وأقاموا المناسبات الدينية والاجتماعية، مما مكّنهم من نقل تراثهم إلى الأجيال الجديدة.
ظلت العائلة الدرزية نواة متماسكة، تلعب دورًا محوريًا في صون القيم والمبادئ وسط مجتمع سريع التغير. وكما عهدهم التاريخ، أظهروا وفاءهم للبلاد التي احتضنتهم، فحافظوا على قوانينها ودافعوا عنها، دون أن ينسوا أصولهم وهويتهم. فهم "بنو معروف"، الذين عرفتهم الشعوب بوفائهم وحسن جوارهم وصدق عهودهم.
شخصيات درزية بارزة في أميركا
من الشخصيات الدرزية التي لمع نجمها في المهجر الأميركي، نذكر:
فريد صعب: من أوائل رجال الأعمال الدروز الذين أسسوا شركات ناجحة في مجال التجارة والاستيراد، وكان له دور مهم في دعم المجتمع المحلي.
الدكتور وليد فرحات: أكاديمي مرموق وأستاذ جامعي ساهم في تطوير البحوث الطبية ورفع اسم الجالية الدرزية في المحافل العلمية.
القاضي رالف صعب: أول قاضٍ أميركي من أصول درزية، تميز بنزاهته وشجاعته في تطبيق العدالة، وترك أثرًا طيبًا في المجتمع القانوني.
رجل الأعمال أديب أبو الحسن: مغترب درزي حمل وجدان بلاده في قلبه، وعُرف بصوته القومي ودعوته الدائمة إلى التمسك بالهوية الثقافية والدفاع عن حقوق المغتربين. ظل رمزًا للصمود والوفاء، رغم ابتعاده عن الأضواء.
أما الأطباء الدروز، فعددهم كبير نسبيًا قياسًا بحجم الجالية، وقد برع كثير منهم في المجال الأكاديمي والبحث العلمي في الجامعات والمراكز الطبية الكبرى.
الجمعيات الدرزية ودورها في الحفاظ على الهوية
أدرك المغتربون الدروز منذ وصولهم أهمية التنظيم والعمل الجماعي. فأنشؤوا العديد من الجمعيات الثقافية والاجتماعية التي لعبت دورًا محوريًا في تعزيز الروابط بينهم.
أبرز هذه المؤسسات:
الجمعية الدرزية الأميركية (American Druze Society - ADS): تأسست عام 1929، وتعد من أقدم المنظمات الدرزية في المهجر.ساهمت في إنشاء مراكز ثقافية، وتنظيم مؤتمرات سنوية تجمع الدروز من مختلف الولايات، لمناقشة قضايا الهوية والتعليم والدين.
كما نشأت فروع محلية في مدن مثل ديترويت، ولوس أنجلوس، وميامي، تقدم دعماً اجتماعياً للأسر، وتعمل على تعليم الأبناء اللغة العربية ومبادئ المسلك التوحيدي.إضافةً إلى ذلك، تقوم الجمعيات بتنظيم حملات تبرعات لدعم المجتمعات الدرزية في لبنان وسوريا خلال الأزمات، مع الحفاظ على النشاطات الثقافية والخيرية.
عدد الدروز في أميركا
لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد الدروز في الولايات المتحدة، ولكن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن عددهم يتراوح بين 30,000 و50,000 نسمة.ويتركز معظمهم في ولايات ميشيغان (خاصة ديربورن)، كاليفورنيا (لوس أنجلوس)، وفلوريدا (ميامي).
بين التحديات والآمال:
اليوم، ومع تطور وسائل الاتصال والعولمة، تواجه الجالية الدرزية في أميركا تحديات جديدة، أبرزها ضعف الارتباط بالتراث واللغة العربية لدى الأجيال الشابة.ومع ذلك، تبذل جهود حثيثة للحفاظ على الهوية من خلال النشاطات الثقافية والدينية، والرحلات السنوية إلى القرى الدرزية في بلاد الشام.
إن قصة المغتربين الدروز في أميركا ليست مجرد حكاية اغتراب، بل شهادة حيّة على قدرة الإنسان على التشبث بجذوره، وصناعة جسرٍ بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والانفتاح.
( المقالة كُتبت لموقع medium بالإنكليزية)@جميع الحقوق محفوظة