الموحدين الدروز في عصر صالح بن يحيى البحتري

الأستاذ الشيخ مكرم المصري - 11- 2  - 2022

 يعـتبر كتاب أخبار السَّلف من ذرِيـَّـة بحـتر بن علي أمير الغَرب في بيروت وثيقَة تاريخـيَّة عزَّ نظيرها، جمعها ودوَّنـها أحد أبنـاء تلك الذريـَّة النيِّـرين، الأمير صالح بن يحيى في النّصف الأوَّل منَ القرن التاسع للهجرة ( الخامس عشر للميلاد). تعود أهميَّـتها البالغة إلى كونها الرواية المفصَّلة الوحيدة التي تحفظ لنا روايات شفهيَّة ومُستندات خطيَّة ومرويَّات عيانيَّة تعود كلُّها إلى حقبة مظلمة من تاريخ بيروت وما جاورها في ذلك العصر. 

لقد كانت بيروت واحدة من أربع مناطق أو ولايات تألَّفت منها الصفقة الشماليَّة التي كانت بدورها واحدة من أربع صَفقات تمثل بمجموعها أكبر مقاطعات الممالك الشَامية في أيـام المماليك مملكَة دمشق. كانت بيروت تعتَبر من المناطق الريفيَّة التابعة لتلك المملكة آنذاك، وقد اكتنف الغموض التاريخ الوسيط لهذه المَناطق التي حكَمتها اسر من الأُمراء والمقدَّمين التقليديـين.        

 كان من حسن حظّ آل بحتر التنوخيـّين الذين حكموا ولاية بيروت لفترة طويلة أن يخلّد أخبارهم مؤَرّخهم الأمير صالح فحفظ لنا بعمله سجِلاً حافِلاً أصبح مصدراً أساسياً للدَّارسين والباحثين المختصّين. لا تقتصر أهميَّة هذا المصدر على ناحيةٍ واحدة من أبواب البحث، وإنَّما تَتعدَّاها إلى مواضيع ذكرتها المقدّمَة الفرنسيَّة للنص المحقق. فهو واحد من المصادر النَّادرة التي تتيح للباحث استشفاف جذور لبنان المعاصر في القرون الوسطى. ذلك أنَّ المعرفة بأوضاع الأَرياف اللبنانيَّة السُّورية في ذلك الزمان معدومة دون هذا التاريخ. كما أن مرويَّاته تغطي المرحلة الكبيرة التي شهدت منطلقات الإمارة الدرزيَّة وبداياتها، ومن ثم قدرتها الحفاظ على حكم ذاتي بعد أن ضمَّت إليها الجزء الأكبر من جبل لبنان. ويستطيع الباحث أيضاً أن يرصد في تفاصيل هذا التاريخ سجِل العلاقات التي كانت سائدة بين البحتريـين وحكَّام دمَشق آنذاك، فضلاً عن الوثائق  الموجودة في متنه، كما أنه يمكن من دراسة التـنظيم الإداري في المقاطعات الأيوبـية والمملوكية، والتـنظيم الإقطاعي والعسكري في البلاد. 

برأيي الشخصي كان تاريخ الأمير صالح بن يحيى المصنَّف الدرزي الوحيد المعروف خلال خمسة قرون ثلث  نشوء المذهب التوحيدي. ومن المعروف أنَّ ذلك المذهب اتَّخذ مَنحى لشرح الآيات القرآن الكريم استناداً إلى نَظريَّة الإمامة. وقد ارتدَّ عن تعاليمه بعضُ كبار دعاته وشوَّهوا مقاصده قولاً وممارسَة، ففتحوا المجال واسعاً لإلصاق التـُّهَم الزائفة به، وتشويه حقائقه وإطلاق التفاسير المغلوطة حوله، ولا شأن لها به لا من قريب ولا من بعيد. لم تؤثّـر تلك الردَّة على خطّ مساره الأصيل ، بل قضي عليها بالسَّيف حيناً وبالموعظة الحسنة أحياناً كثيرة. ولم تعرف الطَّائفة  اختلافاً كبيراً أو صغيراً حول نهجها الفكريِّ المتَّـبع، وذلك يعود في الدَّرجة الأولى إلى فضيلة التَّخيـير المتَّـبعة في أمور المسلك والعقيدة. 

فالمسلك التوحيدي يجتهد ليتكامل مع جسم الأُمة وروحها ويحافظ على حرِية الغوص والتَّحـقق في العبادات على مثال الصوفية الشرعية التي خطت صفحات ذهبيَّة في التراث الإسلامي العريق. وأصبح من ثوابت الأُمور في تاريخ لبنان، ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس للهجرة)، أن الطبقة السياسية الدرزية أخذت على عاتقها مهاماً ومسؤولـيَّات هيَ في مَحصولها الأكبَر لصالح الدُّوَل والقوى المُتعاقبة التي ادَّعَت كلٌّ بدورها تمثيل الأمَّة والجماعة. وكانت المحصّلة الأساسيَّة لتدخلات العقَّال (رجال الدِّين) لصالح المواقف الدَّاعمة للوحدة الداخلية للطائفة من جهة، وللتوحد مع الموقف العام الذي تتَّخذه القوى الممثّلَة للجماعة من جهة اخرى.

 ويبدو هذا الثَّابت صحيحاً في الحقب البحتريَّة والتنوخيَّة والمعنيَّة، مع استـثناء فترة حكم الأمير فخرالدين المعني الثاني الكبـير. إذا افتَرضنا رسماً بيانياً تـتمثَّلُ فيه التوَجُّهات العامَّة لنصِّ الأمير، وَجَدناه يتألَّف من خطين متوازيين لا يتقاطعان، بل يساير أحدهما الآخر من بداية الأحداث إلى آخرها. فنحن هنا أمام تاريخ لطَـبقتين، تواكب الأولى منهما الأحداث السياسيَّة والعسكرية والإدارية في علاقاتها بالولاة والقوى المتغيِرة، في حين نجد الثانية تغوص في زهدها وصوفـيتها باحـثةً لنفسها إضافةً إلى علوم الدِّين- عن عالمٍ ثقافيٍّ في امّهات الكتُب التراثـيَّة بروح التبَعية للأصول من غير انشقاقٍ أو قطيعة. أما العلاقة بين الطَّبـقتين فنجدها مبنيَّة على التواصل الأكيد والدعم الرزين لتوجهٍ عام ثابت نحو الوحدة والتوحـد. وهذه ميزة ذات طابع درزي يحظى بها تاريخ الأمير صالح بن يحـيى واحمد ابن سباط لم تستـثمر بعد في الدّراسات والأبحاث التاريخيَّة. ولهذه الميزة بعد مهم آخر، فهي تظهر لنا من خلال استقراء منهجي للنـبذ الـمثبتة. 

  إنَّ مَسلكيَّةَ الأمير السيِّد الاجتماعيَّة، فَضْلاً عن أعماله الفكرية والمدرسة النشيطَة التي كوَّنها بحسب قول ابن سباط، تمَثّل حركة نهضوية كان لها أبعد الأثر وأخطره على المجتمع التوحيدي في جزيرة الشام كلّها. وقد أصبحت بفعل هذا الأثَر مثالاً يحتذى طوال خمسة قرون ونيف، ذلك أنَّ الأهميَّة الجوهرية التي يحظى بها روحياً واجتماعياً تزداد قيمتُها مع تقدُّم الزَّمن وليس العكس.