النار والنور


ايمان أبو شاهين يوسف - 27- 10- 2023

               

 وقف رجلان أمام صخرة صوّان كبيرة، تصدر لمعانا أبيض من بين احجارها السوداء، فأعجبهما منظرها وراحا يتفحصانها بدهشة وإعجاب. 

قال الرجل الأول لصاحبه: هل شاهدت من قبل، كيف يُصْدِر هذا الحجر اللاّمع السواد، شرارات نار، عندما تضربه في الأرض، أو في أي جسم صلب آخر؟

 أجابه صاحبه: نعم شاهدت ذلك، وأثار هذا الأمر حشريتي وفضولي لأعرف سرّ ذلك، وهذا بالحقيقة ما دفعني للمجيء الى هنا لكي أجرّب ذلك بنفسي وأشعل منه ناراً. 

قال الرجل الأول: وأنا أعجبت جداً بهذه القدرة الكامنة في هذا الحجر الأسود، الذي طالما رفضنا أن نعمّر منه بيوتنا بسبب لونه وحسب، ليتبين لاحقا أنه مصدر للطاقة والقوّة، يحتاجها الانسان في كثير من صناعاته. 

قال صاحبه: صحيح قولك، فالنار التي يشعلها قادرة على ان تلتهم كلّ ما يكسو هذه الأرض من نبات وحيوان، وتحوّلها بدقائق الى أرض قاحله جرداء.

 أجابه الرجل الأول: صحيح أنها تستطيع أن تحرق كلّ شيء، لكنّها أيضاً لها منافع أخرى، ويمكنها ان تكون مصدر دفْ ونور. 

فقال الصاحب: لا تأخذني كثيراً في الحديث، أنظر الى هذه الشرارات التي سيصدرها هذا الحجر، سأجمع حوله بعض العشب اليابس لكي أحصل منه على النار.

 فقال الرجل الأول: وما حاجتك الى هذه النار؟

 قال الصاحب: انتظر وسترى ماذا سأفعل!!! 

ما أن أشعل الحجر العشب الذي جُمِعَ من حوله، حتى أخذ الصاحب عوداً طويلاً كانت النار قد بدأت تظهر في رأسه، ثمّ انطلق يركض به بين أشجار الغابة يضرم النار بكلّ ما فيها من خضار ويباس، وهو يشعر بالفخر والقوة. ثمّ أطلق عنان ضحكاته، لترتفع مدويّة في كلّ انحاء الغابة، مزهواً فرحاّ بإنجازه العظيم. ومقابل هذه الضحكات الفارغة ارتفع بكاء وصراخ المتألمين من سكان الغابة، يستنجدون بقليل من الوعي والضمير. 

لم تمض ساعات قليلة حتى التهمت النار كل أشجار الغابة ونباتاتها، واحترق كل ما فيها من طيور وحيوانات إلاّ من استطاع الوصول الى مياه الجداول والسواقي فرمى نفسه في مياهها ليطفئ بها نار الغطرسة والجهل. 

حزنت الغابة حزنا شديدا وارتدت ثوبها الأسود حداداً واسفاً على جميع الضحايا الأبرياء الذين سقطوا ظلماً وتعسفّا. 

ذعر الرجل الأول لما شاهد ورأى، فراح يصرخ بأعلى الصوت يطلب النجدة، لكنّ قوّة الشر كانت أسرع منه ببلوغ هدفها، واستمرت النار باشتعالها حتى قضت على كل نبات وخضار في تلك الغابة. 

خمدت النيران، بعد أن حلّت عتمة الليل، والرجلان ما زالا في الغابة، أحدهما ليشبع روح الشر التي تسكنه والآخر يحاول أن يخفف من الألم الذي خلفته تلك النار المفتعلة. 

 أخيرا قرّرا العودة الى البيت، لكنّ الظلمة حالكة، وطريقهما غير واضحة، والأرض مملؤة بالجمر، التي ما زالت تعسّ تحت الرماد.

  حاولا السير لكنهما صارا يتعثران بتلك الجمار التي كادت ان تحرق أقدامهما. توقفا قليلا يفكّران بحلّ ينقذهما، فما كان من الرجل الأول، الاّ ان أخذ بعودٍ ما زال في رأسه شيئا من النار، وحمله مشعالا يستدل به الطريق.

 سار الاثنان بين صمت الموت وأنين المصابين، وفي رأس كل واحد منهما درسا اكتسبه في هذه الليلة الدامية، واحدٌ يضحك جذلانا وآخرٌ يبكي أسفا. 

 قبل الوصول الى المنزل التفت الرجل الأول الى صاحبه يقول: هل تريد أن تقول شيئاً؟

 قال: نعم أريد أن أقول حمداً لله الذي أنعم عليّ بهذه الليلة التي طالما حلمت بها، ومكنني من مشاهدة منظر هذا الحريق العظيم. حقّا فإن قوّة النار عظيمة، ولا عجب إن عبدها إنسان العصور القديمة. 

كما أشكر الله الذي أوحى إليك بفكرة المشعال ونجّانا من الجمار التي كادت تحرق قدمينا. 

أجابه الرجل الأول: ألم تشعر بالذنب تجاه ما قتلت وحرقت من مخلوقات الغابة؟؟؟

 أجابه الصاحب: هذا قدرهم بأنهم كانوا من سكّان هذه الغابة. 

قال الرجل الأول: سمعتك تحمد الرب أن هداني الى المشعل، وهذا يعني انك تخاف على نفسك، فلماذا لا تهمّك حياة الاخرين إذن؟

 قال الصاحب: ما بك يا رجل وهل تساوي بين حياة الإنسان وحياة مخلوقات الغابة؟؟

 قال الرجل الأول: وهل تسمي من لا يحترم حياة الآخرين إنسانا؟

 فالإنسان يا صاحبي هو من يحسن استعمال النار ويستفيد من نورها لتكون سراجا يهتدي به سواء السبيل. 

" فإن النار بيد الغافل شرّا وموتاً ودمار، وفي يد العاقل نورا وسراج وهداية".

 ساد الصمت واستمر الاثنان بالمسير حتى وصلا عند مفترق طرق في اول القرية، وراح كل واحد منهما في طريق.