النَّظَرِيَّةُ الجَدَلِيَّةُ:

النَّظَرِيَّةُ الجَدَلِيَّةُ:

الأُسُسُ الفَلْسَفِيَّةُ وَالمَنْطِقِيَّةُ

في جَوْهَرِهَا، لا يُمَثِّلُ الصِّرَاعُ مُجَرَّدَ تَنَاقُضٍ، بَلْ هُوَ بَحْثٌ مَنْطِقِيٌّ عَنْ حَقَائِقَ بَدِيلَةٍ. مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيٍّ، تَقُومُ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ عَلَى الجَدَلِ.

تَنْشَأُ الحَقِيقَةُ مِنَ التَّوَتُّرِ بَيْنَ الأَفْكَارِ المُتَضَادَّةِ. 

فِي نَظَرِيَّةِ هِيغِل، تُمَثِّلُ «الأُطْرُوحَةُ» المَنْظُورَ الأَوَّلِيَّ أَوِ الفِكْرَةَ الرَّئِيسِيَّةَ المَطْرُوحَةَ فِي الجَدَلِ. 

وتُمَثِّلُ الأُطْرُوحَةُ حَالَةً أَوَّلِيَّةً مِنَ الوَعْيِ أَوِ الوُجُودِ، وعَادَةً مَا تَكُونُ غَيْرَ مُكْتَمِلَةٍ أَوْ مُتَنَاقِضَةً بِطَبِيعَتِهَا. 

تَقُودُ هَذِهِ التَّنَاقُضَاتُ الجَدَلِيَّةُ الحُجَّةَ فِي اتِّجَاهَاتٍ مُتَعَارِضَةٍ، لِتَتَوَّجَ فِي النِّهَايَةِ بِتَوْلِيفٍ وَفَهْمٍ أَعْمَقَ. 

وَتَتَمَحْوَرُ الهِيغِلِيَّةُ حَوْلَ هَذِهِ الحَرَكَةِ الدِّينَامِيَّةِ بَيْنَ الأُطْرُوحَةِ وَنَقِيضِهَا وَالتَّوْلِيفِ، لِفَهْمِ تَطَوُّرِ الفِكْرِ وَالتَّارِيخِ.

مَفْهُومُ الأُطْرُوحَةِ فِي الجَدَلِ الهِيغِلِيِّ:

البِدَايَةُ: 

تُمَثِّلُ الأُطْرُوحَةُ الفِكْرَةَ أَوِ المَفْهُومَ أَوِ الحَالَةَ الأَوَّلِيَّةَ لِلْفَلْسَفَةِ أَوِ التَّارِيخِ، مِثْلَ فِكْرَةِ الحُرِّيَّةِ المُطْلَقَةِ فِي بَدَايَاتِهَا. 

وَبِمَعْنًى آخَرَ، فَإِنَّ أَيَّ جَدَلٍ يَنْطَوِي بِطَبِيعَتِهِ عَلَى تَنَاقُضٍ دَاخِلِيٍّ؛ فَجَوْهَرُهُ يَفْتَرِضُ وُجُودَ عُنْصُرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ تَنَاقُضٍ. 

وَهَذَا التَّنَاقُضُ هُوَ القُوَّةُ الدَّافِعَةُ الأَسَاسِيَّةُ وَرَاءَ الجَدَلِ.

المَرْحَلَةُ الأُولَى مِنَ التَّطَوُّرِ:

هِيَ المَرْحَلَةُ الأُولَى فِي تَطَوُّرِ الفِكْرِ أَوِ الرُّوحِ. 

فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ، يُطْرَحُ مَفْهُومٌ مُعَيَّنٌ (حُجَّةٌ)، لَكِنَّهُ لا يُعَبِّرُ عَنِ الحَقِيقَةِ كَامِلَةً.

المَنْطِقُ: 

يَجِبُ أَنْ يَكْشِفَ الرَّدُّ عَنْ عُيُوبِ الِاسْتِدْلَالِ، أَوِ الِافْتِرَاضَاتِ، أَوِ الأَدِلَّةِ، وَأَنْ يُقَدِّمَ بَدِيلاً أَكْثَرَ تَمَاسُكاً.

نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَةِ: 

يَتَحَدَّى الرَّدُّ حُدُودَ المَعْرِفَةِ، وَيَتَسَاءَلُ عَمَّا إِذَا كَانَ الِادِّعَاءُ الأَوَّلِيُّ مَبْنِيّاً عَلَى اليَقِينِ أَمْ مُجَرَّدَ اعْتِقَادٍ. 

إِنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً قَائِمَةً عَلَى التَّكَافُؤِ.

المَنْظُورُ الإِنْسَانِيُّ: 

مِنْ مَنْظُورٍ إِنْسَانِيٍّ، لا يَهْدِفُ الرَّدُّ إِلَى الِانْتِصَارِ، بَلْ إِلَى تَعْمِيقِ الفَهْمِ.

يَحْتَرِمُ الرَّدُّ كَرَامَةَ الشَّخْصِ الَّذِي يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَتَعَامَلُ مَعَ الِاخْتِلَافِ كَحِوَارٍ، لا كَصِرَاعٍ. يُؤَكِّدُ هَذَا النَّهْجُ عَلَى التَّعَاطُفِ: «أَتَفَهَّمُ وِجْهَةَ نَظَرِكَ، لَكِنْ دَعْنِي أَنْظُرْ إِلَيْهَا مِنْ زَاوِيَةٍ أُخْرَى». 

يَسْعَى هَذَا النَّهْجُ إِلَى إِيجَادِ أَرْضِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، مُدْرِكًا أَنَّ تَنَوُّعَ وِجْهَاتِ النَّظَرِ يُثْرِي التَّجْرِبَةَ الإِنْسَانِيَّةَ الجَمَاعِيَّةَ.

المُسْتَوَى الرُّوحِيُّ: 

مِنْ مَنْظُورٍ رُوحِيٍّ، يُعَدُّ كُلٌّ مِنَ النِّقَاشِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ تَعْبِيراً عَنِ التَّوَاضُعِ وَالسُّمُوِّ.

يُقِرُّ هَذَا النَّهْجُ بِأَنَّهُ لا يُوجَدُ مَنْظُورٌ وَاحِدٌ يُحِيطُ بِالحَقِيقَةِ كَامِلَةً؛ فَالحَقِيقَةُ مُتَعَدِّدَةُ الأَوْجُهِ، «كَضَوْءٍ يَنْكَسِرُ عَبْرَ مَنْشُورٍ». 

وَهَذَا يَتَطَلَّبُ عَقْلًا مُنْفَتِحاً، وَيُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الحِكْمَةَ غَالِباً مَا تَنْبَثِقُ مِنَ التَّنَاقُضَاتِ وَالمُفَارَقَاتِ. 

وَبِهَذَا، يُصْبِحُ النِّقَاشُ تَمْرِيناً عَلَى التَّعَاطُفِ، وَتُصْبِحُ الِاخْتِلَافَاتُ سَبِيلاً لِلْوِحْدَةِ لا لِلِانْقِسَامِ.

مِثَالٌ عَمَلِيٌّ: 

تَخَيَّلْ شَخْصًا يَقُولُ: «يَكْمُنُ مَعْنَى الحَيَاةِ فِي النَّجَاحِ المَادِّيِّ فَقَطْ». 

قَدْ يَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيٍّ وَإِنْسَانِيٍّ وَرُوحِيٍّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيٍّ:

النَّجَاحُ المَادِّيُّ مُؤَقَّتٌ وَعَابِرٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى مُتَجَذِّراً فِي الأَبَدِيَّةِ.

مِنْ مَنْظُورٍ إِنْسَانِيٍّ:

لا يُمْكِنُ اخْتِزَالُ قِيمَةِ الإِنْسَانِ فِي الثَّرْوَةِ المَادِّيَّةِ؛ فَالتَّوَاصُلُ الإِنْسَانِيُّ، وَالإِبْدَاعُ، وَاللُّطْفُ هِيَ جَوْهَرُ إِنْسَانِيَّتِنَا المُشْتَرَكَةِ. 

مِنْ مَنْظُورٍ رُوحِيٍّ:

يَتَحَقَّقُ الرِّضَا الحَقِيقِيُّ عِنْدَمَا نَكُونُ فِي انْسِجَامٍ مَعَ مَا هُوَ أَسْمَى مِنْ ذَوَاتِنَا، كَالحُبِّ لِفِعْلِ الخَيْرِ، أَوِ الإِخْلَاصِ لِلشَّرِيكِ أَوْ لِلْعَمَلِ، أَوِ التَّقَرُّبِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

بِاخْتِصَارٍ، 

عِنْدَمَا يَكُونُ النِّقَاشُ مَنْطِقِيّاً، وَإِنْسَانِيّاً، وَرُوحِيّاً، يُصْبِحُ مِرْآةً لا سِلَاحاً؛ فَهُوَ يَعْكِسُ قُصُورَ الحُجَّةِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ يُنِيرُ رُؤْيَةً أَوْسَعَ لِلْحَقِيقَةِ. 

وَبِهَذَا، يُصْبِحُ الِاخْتِلَافُ حِوَاراً مُقَدَّساً، وَدَعْوَةً لِلنُّمُوِّ المُتَبَادَلِ، لا لِلْعُزْلَةِ.دُمْتُمْ فِي أَمَانِ اللهِ.

س.ح.