إيمان أبو شاهين يوسف
يمامةٌ بيضاء تحلّق في كبد السّماء، وعلى وجهها ترتسم علامات البٍشْر والفرح، ومع خفقات جناحيها يخفق قلبها حبّاً وهوى. رآها غرابٌ أسود معقود الحاجبين مترهّل الوجنتين باكياً ينعق استياءً وتذمراً فشدّ انتباهه تفاؤل وفرح هذه اليمامة الرقيقة، كما ولفته جمال لونها ولطافة طيرانها، فأحسّ برعشة تجتاح قلبه وتحرّك به شعوراً لم يعرف له مثيلاً.
حاول الغراب تجاهل هذه اليمامة فأدار لها ظهره ورجع إلى بُكائه ونعيقه. فجأةً وبدون إرادةٍ منه راح يطير باتجاهها ويدور حولها يرقص رقصة الحبّ والشّغف وكأنه في حالةٍ من السّكر. أعجبت اليمامة بهذا الغراب المتمرّد على بني جنسه، المحبّ للفرح والحياة عكس كل غربان الأرض والسّماء، كما أعجبت بجرأته وعفويته فابتسمت له وراحت تشاركه الرّقص متمايلةً تمايل المراهقة العاشقة، مما شجّعه على الاعتراف لها بحبّه وطلبها للزّواج.
عَلِم أهل اليمامة بالخبر فجنّ جنونهم وهم الأعلم بطبع بني الغربان وشؤمهم ويأسهم وإحباطهم في هذه الحياة، فهم لا يشكرون نعمةً ولا يستبشرون خيراً بعطاء.. أمّا حياتهم فكلّها نعيقٌ وبكاء، وكلّ طيور الأرض تغرد لاستقبال طلوع الضوء إلا الغربان فتنعق وتشكو الهمّ والغمّ.
حاول الأهل أن يشرحوا لابنتهم واقع الغربان وطلبوا إليها إعادة التفكير بقرارها، فقال لها الوالد: ابنتي حبيبتي، أنت كلّ شيء في حياتي، بل أنت كلّ حياتي وإن طلبت روحي أقدمها لك، ولا طلب لي عندك إلا أن تفكّري مليّا بقرارك وإعادة درسه جيداً، لأن ما ينتظرك يختلف تماماً عما تحلمين به، وأنت يا حبيبتي طالما عشقت الحياة وفرح الحياة فلماذا تعرّضين نفسك لمصيرٍ أسود قاتم كسواد وشؤم هذا الغراب؟؟؟
أجابت اليمامة قائلة: أبي أنت الذي علّمتني حب الحياة، وحبّ جميع المخلوقات في هذه الحياة، فكيف تناقض نفسك اليوم وتعيّر الغراب بسواده وتنعته بالمتشائم؟ قال الوالد: ابنتي الحبيبة، صحيح أنني من علّمك حب الحياة وحبّ جميع المخلوقات، لكن هذا لا يعني أن أزوجك بمن يكره نفسه ويكره الحياة.. فهذا الغراب وجميع بني جنسه لا يحبون أحداً حتى أنفسهم، وهم يضيّعون فرصة الفرح في هذه الحياة بالنعيق والتذمّر والبكاء، فيعيشون همّاً ويموتون غمّاً. هل فهمت الآن لماذا أعارض هذا الزّواج؟
أجابت اليمامة: أبي، إن كلامك غير منطقي، ولو كان الغراب حقّاً لا يحب الحياة فما الذي دفعه للرّقص معي والاعتراف لي بحبّه؟ هنا تدخلت الأم غاضبة وقالت: اسمعي يا فتاة هذا الزّواج لن يحصل ولن أرمي بك إلى البؤس والشقاء، وأنا من ربيتك لتسعدي وتعيشي عيشة الهناء!!!
وقفت اليمامة وقفة المتمرّد وقالت: وداعاً أمي وأبي، وداعاً إخوتي وأخواتي، أنا ذاهبةٌ لمن أحب، من أراد منكم الدعاء لي بالتوفيق فليفعل، ومن لا يرغب في ذلك فهذا قراره.. ثم طارت إلى الفضاء الخارجي حيث وجدت الغراب في انتظارها، فتعانقا وذهبا معاً إلى قلعة الغربان.
في طريقها إلى القلعة راحت اليمامة تتخيّل الحفل الكبير الذي سيقيمه الغربان فرحاً بزواجهما، وقالب الحلوى الذي سيعدّونه لهما، وأصناف المأكولات التي ستكون على مائدة الاحتفال، ثمّ تضمّ إليها الغراب شكراً وامتناناً دون أن يفهم لذلك سبباً.
وصلا القلعة، ودخلا بين الغربان حيث لا موسيقى ولا حلوى ولا طعام، فلكل ينعق ويتذمّر ويشكو حال الحياة. حاولت اليمامة أن تبعث بجوّ من التفاؤل والفرح فيما بينهم وراحت تقول: تعالوا نحتفل بفرحة زواجنا.. دعوا صوت الموسيقى يرتفع .. فليشاركني الجميع رقصة فرحي.
رفع الغربان رؤوسهم ونظروا إليها نظرة شفقة قائلين: لن نعتب عليك أيتها اليمامة، فأنت من جنس لا يفقه جوهر الحياة، فتعيشون وهماً وتحسبونه حقيقة. قولي لنا ما الذي يدعوك للفرح؟ هل الشّقاء والتّعب من أجل تحصيل لقمة العيش هما سبباً لذلك؟ أم المرض الذي يهدّدنا في كلّ لحظة من حياتنا؟ أم كره بني البشر لنا ومحاولاتهم الدائمة لقتلنا واصطيادنا؟ أم نهايتنا المحتّمة التي يحسمها الموت ونصبح وكأننا لم نمرّ يوماً على مسرح هذه الحياة؟ ....... بعد هذه الأسئلة كلها ألا تستخفي بنفسك إذا فكّرت يوماً بالرقص والفرح؟ ألا تعتقدين أنك إذا فعلت هذا ستكونين كالذين يرقصون على القبور؟ اعقلي يا ابنتي وهات كتاب الوصايا لنتوب ونصلي حتى يتوب الله، علينا ويدخلنا فسيح جنانه بعد الموت، فيكون لنا الجنة عوضاً عن حياة الأرض.
جلست اليمامة وكأنها تجمّدت، لا حركة ولا كلمة ثمّ أخذت تتضرّع وتطلب السّماح من الله عمّا فعلت وهي تقول: سامحني يا رباه فإني لم أكن أعلم ماذا أفعل.
وقف والد الغراب إلى جانب اليمامة وقال: يا ابنتي إنّ لونك الأبيض يبعث فينا الاشمئزاز والغضب لأنك به كأنك تعيّري سوادنا، فعليك الدخول فوراً إلى حجرتك وإطلاء نفسك بطلاء أسود يشبهنا.
وقف الابن ليدافع عن لون زوجته وهو يقول: إرحمنا يا أبتي فإن لونها الأبيض يضيف لمسةً جميلة على سواد ألواننا ويجعلنا ننظر للحياة من وجهتين، الخير والشّر، النّور والظّلمة، الحبّ والحقد... لأنني أعتقد أن كلّ شيء في الحياة مركّب من نقيضين التي عنهما تتوّلد الحركة ومنهما تنبعث الحياة.
أجابه الوالد: أعتقد أنك تتفلسف قليلاً وتحاول أن تجعل من نفسك زرادشت، اصمت ولا تتفوّه بكلمةٍ وادخل لتساعد زوجتك بتغيير لونها كي تصبح سوداء كالغربان، وإلا أخرجا من هذا الباب ولا تعودا إلينا أبداً. دخل الغراب وساعد زوجته البيضاء لكي تصطبغ بالسواد كباقي الغربان، وبعد أن أنهى عمله أخذ بيدها وخرجا لينضمّا إلى باقي الغربان ويشاركا في البكاء والنعيق.
لاحظ الغربان أثناء جلسة النعيق بأن في نعيق اليمامة نغمات فرح وتفاؤل، فقرّروا أن يتشدّدوا في عقابها حتى تتقن فنّ النعيق، والسذبيل لذلك بضربها وإيذائها حتى تتألّم ألماً شديداً يُخرج مع نعيقها الحزن والغمّ فيغمرها اليأس وتلفّها الكآبة وتصبح بذلك كباقي الغربان.
ضاقت الدّنيا بهذه اليمامة - المتغرّبة وأُقفلت أمامها جميع الأبواب .. زوجها ضعيف الشّخصية وليس لها مِن معينٍ فماذا تفعل؟ العودة إلى الوراء غير ممكنةٍ والاستمرار بهذا الواقع موتٌ وجحيم. صراعٌ مرير عاشته هذه اليمامة البريئة، وبعد طول تبصّر وتفكير قرّرت الخلاص بنفسها وتعقّب غريزة الحرية التي تسكنها، فطارت محلّقة تبحث أولاً عن نبعة ماء تغتسل فيها من ألوان التّعصب والعنصرية وترتشف من قطراتها نسغ ماء الحياة، لتعود إليها الحياة وحبّ الحياة، فتتنقّل مزهوة بين أزهار القرنفل والزّنبق تلتمس من ألوانها السّحر والجمال، وتتنفّس مع أريجها عبق نسيم الحرّية، فيغمر قلبها الحبّ والفرح ويغزو وعيها ضياء النّور واليقين، وتصبح حرّة سلاحها الحبّ والمعرفة.
بعد رحلةٍ طويلةٍ من الجد والعمل لمحوِ سواد أيام عاشتها، وبناء أسسٍ متينة لأيام آتية، عادت اليمامة بيضاء القلب والمظهر، جميلة الصّوت والنّغمات، صافية الفكر والمزاج، وراحت تطير لتنشر الحب والفرح في رحاب الفضاء الواسع الذي لا يحده مكان ولا يأسره زمان. وفي صباح كلّ يوم راحت تطلق زغاريد الفرح والشكر استقبالاّ لأنوار الشّمس في يوم جديد.