المصدر :نُشرت هذه المقالة بالانكليزيةعلى موقعي medium وsubstack
لماذا يُقتل الدروز في سوريا ظلماً وعدواناً؟
حين يُكافَأ الوفاء بالغدر: مأساة الدروز في وجه التطرف:بقلم: فاروق غانم خداج (مدرس ومنسق ومدقق لغوي، كاتب له إسهامات باللغتين العربية والإنجليزية)
منارات الاعتدال في زمن الفتنة
عبر القرون، وقف الموحدون الدروز كالأشجار الراسخة، لا تعصف بهم رياح الفتنة ولا تغريهم دعوات الفرقة. قلوبهم كانت ملاذًا لكل خائف، وسيوفهم لم تُشهر إلا دفاعًا عن الحق، لا طمعًا في سلطان ولا سعيًا وراء مكسب دنيوي. لم يُعرف عنهم يوماً أنهم اعتدوا على طائفة، أو شهروا سيف البغي على قوم، بل كانوا على الدوام الحضن الآمن لكل من قصدهم، خاصة إخوتهم من الطوائف الإسلامية.
فخر الدين المعني الثاني
لقد حملوا لقب "بني معروف" لا عن عبث، بل لأنهم عُرفوا بالصدق، بالكرم، وبحفظ العهد. في زمن اشتد فيه الصراع بين الإخوة، اختاروا أن يكونوا جسرًا لا خندقًا، وباتوا منارات هدى في عتمة الاحتراب. فمن جبل الدروز، مرّت رسائل الوحدة، ومن صدور رجالهم انطلقت صرخات الحرية في وجه الظلم، لا يفرقون بين مسلم ومسيحي، ولا بين سني وعلوي، بل يرون الجميع أبناء وطن واحد، دماؤهم محرمة، وأعراضهم مصونة.
بنو معروف: قوم حفظوا العهد وأخلصوا للوطن
لم يكتفِ الدروز بحيادهم النبيل، بل سجلوا صفحات من البطولة الخالصة في الدفاع عن الأرض والعِرض. دافعوا عن السواحل اللبنانية في وجه غزوات الروم، ووقفوا على ثغور الأمة كفرسان لا يساومون، وقدموا للعروبة أعلامًا خلدهم التاريخ: شكيب أرسلان، الذي دافع بقلمه ولسانه عن قضايا العرب والمسلمين، وكمال جنبلاط، الذي جمع بين الفكر السياسي والاجتماعي، ودافع عن قضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وسلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، الذي وحّد أبناء سوريا في مواجهة الاستعمار. ومنهم أيضًا فخر الدين المعني الثاني، الذي وضع أسس لبنان على قاعدة وطنية ووحدوية جامعة.
كمال جنبلاط
ذاك التاريخ، الذي لم يُسجل في صفحاته دمًا بريئًا أُريق بيدهم، يُعاد اليوم تشويهه ظلماً وعدواناً. فهل يُعقل أن يُجزى أهل الوفاء بالخذلان؟ وهل يُكافَأ من صان الأرض والعِرض بالتكفير وسفك الدماء؟
حين يتحول التكفير إلى سلاح للقتل والافتراء
رغم هذه الصفحات البيضاء، لم ينجُ الدروز من سهام الحقد التي يطلقها المتشددون كلما اشتدت الأزمات. حاولوا تكفيرهم زورًا، واحتلال أرضهم بغير وجه حق، ووصمهم بأبشع التهم، لكنهم صمدوا، كما صمدت جبالهم، وردوا الغزاة خائبين. إن في جبل العرب، حيث يرابط الدروز، قصة مقاومة صامتة لا يدركها إلا من عرف معاني الكرامة.
واليوم، وفي ظل الأوضاع الدامية في سوريا، تعود موجة الظلم لتستهدفهم من جديد. فمنذ أن تسلم الرئيس أحمد الشرع الحكم، برزت في سوريا مجموعات متطرفة، تعبث بوحدة الوطن، وتضطهد من تسميهم "أقليات". لم تكتفِ هذه المجموعات باضطهاد الدروز، بل هجمت على كل من لا يوافقها في الرأي أو المذهب، من علويين إلى مسيحيين، وحتى معتدلي السنة الذين رفضوا خطاب الكراهية. إن مشهد حرق القرى وتهجير الآمنين لم يكن إلا نتيجة لمنطق "التكفير قبل التفكير"، حيث يُراد لكل صوت معتدل أن يُخرَس، ولكل أقلية أن تُمحى من الخريطة.
الدروز... ضحايا المؤامرات رغم ولائهم للأمة
كم هو مؤلم أن يُكافَأ من صان الأرض والعِرض بالغدر والتكفير! الدروز، الذين رأوا في الزعيم السني جمال عبد الناصر رمزاً لوحدة الأمة، وساندوه في نصرة قضايا العرب والمسلمين، يُقتلون اليوم بلا ذنب، وتُدبَّر لهم المكائد في ظلام الكراهية. ففي حين يرفعون راية الوطن، يُتَّهمون زورًا بالعمالة، وفي حين يدافعون عن وحدة الصف، يُشهر في وجوههم سيف الفتنة.
ولم يقف الأمر عند القتل المباشر، بل انبرى بعض المتشددين في الخارج، كأنس غُبرة المقيم في تركيا، لفبركة تسجيلات مشينة، تتضمن شتماً للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ونسبوها زوراً للدروز، بغية إشعال حرب طائفية لا تبقي ولا تذر.
هذه المؤامرات السوداء تجد آذاناً صاغية بين الجهلة والمتعصبين، فتفاقم من خطر الفتنة، وتدفع الأمة إلى أتون صراع لا خلاص منه. وكأن الدروس المريرة التي عانتها المنطقة من حروب الطائفية لم تكن كافية، فجاء من يغذي النيران، ويوقظ الوحوش النائمة.
الدروز وصناعة استقلال لبنان
شكيب إرسلان
في لبنان، كان للدروز دور محوري في معركة الاستقلال الأولى. حين كانت القوى الاستعمارية تحتل الأرض وتعبث بهوية الوطن، وقف الدروز، بقيادة رجالهم الأحرار، جنبًا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين، ليقولوا "لا للاحتلال، نعم للحرية". فكانوا من أبرز من قادوا تلك المواجهات. لم يكن استقلال لبنان ليُصنع لولا وحدة الجبل مع السهل، والريف مع المدينة، في ملحمة شعبية تجاوزت الانتماءات الضيقة.
وحتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية، بقي كثير من دروز لبنان ينادون بالعيش المشترك، ويرفضون مشاريع التقسيم. فهم، بطبيعة تكوينهم التاريخي، يعرفون أن مصير الأقليات مرهون بوحدة الأكثرية، وأن لا خلاص لأحد إلا بالتلاقي على كلمة سواء.
حين يتحول الصبر إلى صرخة
اليوم، يقف الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين على مفترق طرق. فإما أن يستمروا في صبرهم التاريخي، الذي كان دومًا سلاحهم في وجه المحن، وإما أن يرفعوا صوتهم عاليًا ليقولوا: كفى! كفى للقتل على الهوية، كفى للفتاوى التي تُطلق الأرواح رخيصة، وكفى لمن يحوّل الدين إلى أداة للذبح.
إن ما يتعرض له الدروز اليوم ليس شأناً طائفياً فحسب، بل هو مؤشر خطير على تآكل فكرة الوطن نفسه، وعلى استباحة دم كل من يرفض أن يكون جزءًا من ماكينة التكفير والخراب. فالقضية هنا تتجاوز حدود جبل الدروز، وتمتد إلى كل بيت عربي ينشد الأمان والعدل.
وفي الختام، لا بد من تذكير الأمة كلها بأن من يحرق بيوت الدروز اليوم، سيحرق بيوت غيرهم غداً، وأن من يبرر القتل على الهوية الدينية، إنما يفتح على الأمة أبواب جهنم لا يُرجى غلقها. فلتكن مأساة الدروز جرس إنذار، يُوقظ الضمائر قبل أن يبتلعنا الطوفان جميعا.