الكاتب عماد الاعور
عِندَمَا تَخْبُو آخِرُ أَنْفَاسِ الشَّمْسِ فَوْقَ الأُفُقِ،وَيَتَسَرَّبُ الضَّوْءُ كَمَا يَتَسَرَّبُ العُمْرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْغَافِلِينَ،يَبْدَأُ السَّيْرُ الْحَثِيثُ…ذَاكَ السَّيْرُ الْمَلِيءُ بِخَشْيَةِ الانْقِطَاعِ،حَيْثُ الأَرْوَاحُ تُوقِنُ أَنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ تُدْنِيهَا إِمَّا مِنَ الْفَجْرِ أَوْ مِنَ الظُّلْمَةِ.
لَيْسَ السَّيْرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَشْيًا عَلَى الأَرْضِ،بَلْ عُبُورًا عَلَى حَدِّ السِّكِّينِ بَيْنَ النُّورِ وَالْحِجَابِ،بَيْنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَهَبُ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ،وَبَيْنَ الْغَشَاوَةِ الَّتِي يَنْسِجُهَا طُغْيَانُ الأَنَا.
فِي الْغُرُوبِ، يَتَسَلَّلُ الْخَوْفُ الْحَقِيقِيُّ إِلَى قُلُوبِ الْعَابِرِينَ:الْخَوْفُ لَا مِنَ الظُّلْمَةِ الْمَادِّيَّةِ،بَلْ مِنْ أَنْ يَغْشَى الْقَلْبَ لَيْلُ الْحِجَابِ،ذَلِكَ اللَّيْلُ الَّذِي يَصْنَعُهُ الانْفِصَالُ عَنِ النُّورِ الْحَقِّ.
فِي الْغُرُوبِ، يُدْرِكُ الصَّابِرُونَ أَنَّ اللَّيْلَ خُدْعَةٌ بَصَرِيَّةٌ،أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ فِي الأُفُقِ،بَلْ فِي الْحِجَابِ الَّذِي يَنْسِجُهُ الْعَبْدُ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي أَلْبَسَهَا رِدَاءَ الأَنَا.يَرَوْنَ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ، بَلْ غُطِّيَتْ بِأَسْتَارِ الْغَفْلَةِ.وَأَنَّ النُّورَ الْحَقَّ لَا يَأْفُلُ،بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ نَبْنِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ جِدَارَ الْوَهْمِ.
السَّيْرُ فِي هَذَا الْبَرْزَخِ الرَّمَادِيِّهُوَ سَيْرٌ فِي مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ:أَنْ لَا تُصَدِّقَ عُيُونُكَ حِينَ تَرَى الظُّلْمَةَ،بَلْ أَنْ تُصَدِّقَ قَلْبَكَ حِينَ يُهْمِسُ أَنَّ النُّورَ لَمْ يُغَادِرْ.
الصَّابِرُونَ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا وُجُودَ لَهُ،بَلْ هُوَ ظِلُّ الْحِجَابِ،وَأَنَّ الانْقِطَاعَ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ النُّورَ الَّذِي أَبْدَعَ الْأَكْوَانَلَا يَغِيبُ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ،إِنَّمَا تُغْشَى الْأَبْصَارُ عَنْ شُهُودِهِ.
السَّيْرُ الْحَثِيثُ هُوَ سِبَاقٌ مَعَ النَّفْسِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ سِبَاقًا مَعَ الزَّمَنِ.هُوَ صِرَاعٌ خَفِيٌّ بَيْنَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِوَأَوْهَامِ الْكَثْرَةِ،بَيْنَ حُضُورِ الْمُبْدِعِ الأَوَّلِوَغُرُورِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ.
فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الْحَرِجَةِ، تَتَبَيَّنُ الْمَعَادِنُ:
الْقُلُوبُ الْمَوْصُولَةُ، تَسِيرُ وَإِنْ عَمِيَتِ الْعُيُونُ.وَالْقُلُوبُ الْمَحْجُوبَةُ، تَتَخَبَّطُ وَإِنْ أَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ.
كُلُّ عَابِرٍ يَسِيرُ وَفِي صَدْرِهِ سُؤَالٌ خَفِيٌّ:هَلْ سَأَعْبُرُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ الظَّلَامُ فِي دَاخِلِي؟هَلْ أُبْصِرُ الْفَجْرَ، أَمْ يُسْدَلُ عَلَيَّ لَيْلُ الْحِجَابِ؟
فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ إِلَّا قِشْرَةً فَوْقَ الْقَلْبِ،تَجَرَّدَ مِنْ أَنَاهُ،وَاسْتَغَاثَ بِنُورِ الْمُبْدَعِ الْأَوَّلِ،عِلَّةِ الْعِلَلِ، الَّذِي بِيَدِهِ زِمَامُ الْوُجُودِ.
عِنْدَهَا، يُصْبِحُ السَّيْرُ صَلَاةً صَامِتَةً،تَصْعَدُ فِي أَرُوقَةِ الْغَيْبِ،حَتَّى يَرِقَّ الْقَلْبُ وَيَنْكَشِفَ الْحِجَابُ.
وَهَا هُوَ الْفَجْرُ،لَا يُولَدُ فَجْأَةً،بَلْ يَتَسَلَّلُ كَمَا يَتَسَلَّلُ الْحُبُّ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ:بِلَا صَوْتٍ، بِلَا عَجَلَةٍ، بِلَا إِعْلَانٍ.يَنْبَثِقُ مِنْ ثَنَايَا الْقَلْبِ قَبْلَ أَنْ يَنْبَثِقَ مِنْ أُفُقِ السَّمَاءِ.
فَجْرُ النُّورِ لَيْسَ هُوَ ضِيَاءَ الشَّمْسِ،بَلْ هُوَ ضِيَاءُ الْكَشْفِ،حَيْثُ يَعُودُ الْعَابِرُ إِلَى أَصْلِهِ الْأَوَّلِ،وَيَشْهَدُ النُّورَ الْحَقَّ، النُّورَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ،نُورَ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ كُلِّ نُورٍ وَوُجُودٍ.
وَحِينَ تَبْزُغُ أَنْوَارُ الْفَجْرِ مِنَ الدَّاخِلِ،تَذُوبُ الْأَنَا كَمَا يَذُوبُ الثَّلْجُ أَمَامَ شَمْسِ الْحَقِيقَةِ،وَتَنْقَشِعُ الظُّلُمَاتُ،وَتَتَلَاشَى الْحُجُبُ،وَتَبْقَى الرُّوحُ سَابِحَةً فِي بَهَاءِ النُّورِ الْأَزَلِيِّ،عَارِفَةً أَنَّ السَّيْرَ لَمْ يَكُنْ عُبُورًا فِي الْمَكَانِ،بَلْ عُبُورًا فِي الْمَقَامِ،مِنْ ظُلْمَةِ الذَّاتِ إِلَى إِشْرَاقِ الْحَضْرَةِ.
هُنَاكَ، يَقِفُ الْعَابِرُونَ فِي دَهْشَةِ الْمَحْوِ،وَقَدْ تَلَاشَتْ عَنْهُمْ صِفَةُ الاسْتِحْقَاقِ،وَبَقِيَتْ لَهُمْ صِفَةُ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ،فِي حَضْرَةِ الْغِنَى الْمُطْلَقِ.
فَطُوبَى لِمَنْ عَبَرَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحِجَابِ،وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ تُغْرِهِ ظِلَالُ الْأَنَا،وَطُوبَى لِمَنْ صَبَرَ عَلَى السَّيْرِ حِينَ خَافَ الآخَرُونَ مِنَ الظَّلَامِ.
لِأَنَّ الْفَجْرَ الْحَقَّ لَيْسَ وَعْدًا بَعِيدًا،بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقَلْبِ الصَّابِرِ مُنْذُ اللَّحْظَةِ الأُولَى لِلسَّيْرِ،فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلَاتِهِ الْخَفِيَّةِ،فِي الدَّمْعَةِ الأُولَى الَّتِي سَالَتْ خَوْفًا مِنَ الانْقِطَاعِ،فِي النِّدَاءِ الأَوَّلِ الَّذِي صَاحَ بِهِ الْقَلْبُ:“يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا تَحْرِمْنِي شُهُودَكَ.”
@جميع الحقوق محفوظة