تاريخ في قلب التاريخ - سيرة حياة المؤلفين المعروفيين - الحلقة الرابعة

الشيخ مكرم المصري - 20- 9- 2023

الأستاذ رشيد داود المصري

 *- نشأته 

ولد الأستاذ رشيد داود المصري سنة 1920 في بلدة صليما من أبوين موحّدين "درزيّين". تعلّم وتدرّج في التعليم حتّى الصف الخامس الأساسي، وقد تعلّم اللّغة الفرنسية في بادئ الأمر شفهيًّا من دون أن يتعلّمها كتابةً وبمفرده، مستخدماً في تعليمه القاموس العربي الفرنسي حتى أصبح ضليعاً في هذه المادة، كما أصبح مرجعاً لكل أبناء الجبل في اللّغة الفرنسيّة  لقوّة تحليله وأسلوبه في الكلام وفي النّحو والقواعد، بالإضافة إلى اللّغة الفرنسيّة كان فقيهاً في اللّغة العربيّة وأدابها، فكان المتكلّم الأوّل في المحافل العامة والرسمية. 

*- أبرز خطباته   

*- في مأتم إبن الباشا منصور الهنيدي في جبل العرب في السويداء، أدلى بخطاب ما زال أبناء البلدة يتكلّمون به حتى اليوم، فقد خطب على المنبر لمدّة ساعة متواصلة وباللّغة النحويّة من دون أيّ تحضير، ولكن مع الأسف لم يتم تدوينه من قبلهِ أو من الحاضرين. 

* في مأتم قائد الثورة السورية بتاريخ 25/3/1982 قال رثاء مازال أبناء البلدة يذكرونه حتى اليوم سوف أذكر جزء من هذا الرثاء: 

شقوا الجيوب ونكسوا الأعلامــــــــــــــا  

                                       وابكوا الوفا والمجد والإقدامـــــا

 غاب الغضنفر عن عرينه فاجعلـــــــــوا 

                                       ثوب الحداد يجلّل الآجامــــــــــا

 ابكو فقيد الأريحية والــــــــــــــــــــندى 

                                      ابكوا الزعيم القائد الضرغانمــا

 ابكوا البطولة الشجاعة والحجــــــــــــى 

                                     في موت شخص للخلود تسامى 

سلطان يا باشا الكرامة والإبــــــــــــــــا     

                                     يا من ضمنت لقومك الإكرامــا 

يا من صرعت الخصم في ساحة الوغى 

                                  وجعلت للغربان منه طعامـــــا 

يا من جعلت الشرق ينهض بعدمــــــــا  

                                  ذاق الأسى وتجرّع الآلامــــــا

 * يقول الكاتب "على أثر قيام العصابات الفاشية مدعومة بالجيش الفئوي الغادر بقتل أبنائها واحراق وتهديم بيوتها وتشويه جمالها في 29 أيلول سنة 1976". وقد نظم شعرا بالذكرى وبالفاجعة التي ضربت صليما، اسمى شعره: "الى قريتي ومسقط رأسي صليما". 

قالو:صليما- قلت: ويل صليمــــــــــا               

                                 من طغمة عملت بها تهديمــــــا

 وقضت على امجادها في نشـــــــــوةٍ       

                                  مسعورة تستعذب التحطيمـــــــا 

دكت معالمها بكل قســــــــــــــــــاوةٍ       

                                  فغدت صروح المكرمات رميما

 زال الجمال عن الربوع وأصبحـــت  

                                  دور المسرّة والحبور جحيمــــا 

وتناثرت ازهار كل خميلـــــــــــــــة      

                                 والروض اصبح باكياً محمومـا 

سكتت بلابل كل غصن بعدمــــــــــا               

                               غدت الخمائل تستضيف البوما 

والأرض: ويل الأرض مما شاهدت     

                                من موبقاتٍ توجب التحريمــــا 

جفت مغانيها الفسيحة وارتـــــــوت       

                                 بدل المياه معابياً وسمـــومـــــا. 


* في ذكرى شهداء بلدة صليما بتاريخ 29/9/1979 ألقى شعراً في بلدة صليما وفي مهرجان حافل سوف أذكر مقدمة شعره: 

نذر الحياة لقومه وبــــــــــــلاده                     وسعادة الأوطان جلّ مراده 

وقضى السنين مكافحاً ومجاهداً             فجنت مواطنه ثمار جهاده وسقى جذور المجد فيض دمائه                فحبته تاج الخلد باستشهاده 

* في السادس عشر من شهر أذار من العام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعون إستشهد المعلم الشهيد كمال بك جنبلاط، فقد نظّم شعراً في هذه الذكرى أطلق على شعره إسم فجيعة الشرق، ويقول المربي الفاضل الأستاذ رشيد المصري في مقدمة شعره: "نظمت وألقيت في 20 أذار 1977 على أثر إغتيال الزعيم الكبير والقائد المثالي المناضل كبير الشهداء كمال بك جنبلاط 16/3/1977. 

قالوا: انطوى علم الجلال          قالوا: ذوي غصن الجمال 

قالوا: قضى سبع الرجال          والشرق ادمته النبـــــــال

 فأجبتهم: في كل حــــال            هذا حقيق لا محــــــــــال 

فلقد هو طود النضـــال            والخطب صعب الإحتمال

 قد غاب ينبوع النــوال             من كان مجده لا يُطــــال

 استاذنــا حلو الخصال             وزعيمنا الغالي "كمــال"

 * رحلته التربوية

  بدأ رحلته التربوية شاباً يافعاً عاشقاً لمسيرته التربوية، أخذ من التعليم رسالة، فقد كان يدفع من جيبه لمساعدة الطلاب كي يأتوا ليتعلموا بدل الذهاب الى العمل درَّسَ في مدرسة أمين سلمان المصري. والتي تأسّست في سراي الأمراء اللّمعيّين سنة 1937 وظلّت حتى مطلع سنة 1942. كانت المدرسة عبارة عن غرفة واحدة تدرّس الخط والحساب واللغة العربية. ومن بعدها انتقل للتعليم في مدرسة الداودية في صليما، في الطابق السفلي لمجلس عائلة المصري مقابل مدرسة صليما حالياً، ولكن لم يُعَلّمْ كثيراً فيها. فعند تأسيس مدرسة صليما الرسمية سنة 1946 استلم منصب مدير ومعلم في هذه المدرسة والتي منها كسب شهرته الواسعة، ففي بادئ الأمر كانت مدرسة للصبيان فقط عبارة غرفة واحدة لكلّ الصفوف حتى الرابع الأساسي بتواقيت مختلفة لكل صف بصفه كون المدرسة المذكورة بتاريخه لم يكن يوجد فيه غير مدرس واحد، وكان الطاقم التعليمي مؤلّفًا من أستاذ واحد هو المربّي الفاضل رشيد داود سلمان المصري.

 في العام الدراسي الثاني 1947-1948، تحولت المدرسة إلى غرفتين لأنه تعيّنت في هذه السنة الدراسية امتحانات الشهادة الرسمية، شهادة الدروس الابتدائية "السرتيفيكا" حيث كان التلاميذ يجتمعون في وحدات الصف الأول والثاني والثالث في غرفة واحدة، والرابع والخامس في غرفة أخرى. 

في العام 1948 تقدّم طلاب السنة الخامسة الابتدائية إلى امتحانات السيرتيفيكا وكان عددهم ثمانية، فاز منهم خمسة هم: رؤوف محمود المصري وزهير أمين المصري وسميح نجم المصري وشوقي شاهين المصري وفواز حسن المصري وقد كان الأستاذ رشيد يفاجئ الطلاب الى منازلهم ويسأل أهلهم اذا كانوا يدرسون ويحضرون للإمتحانات الرسمية أو غير أبهين بالإمتحانات كي يعاقبهم أمام زملائهم الطلاب في اليوم الثاني فكان الطلاب يخافونه وايضاّ يحبونه ولا يقدروا على زعله بنفس الوقت. 

وكما ذكرت بدايةً تألّف الطاقم التعليمي لمدرسة صليما الرسمية في العام 1948 من الأستاذ رشيد المصري مديرها وأستاذ  فيها، بالإضافة إلى جورج عون من بلدة أرصون مدرساً معه. وبعد هذا النجاح الذي حققه تلاميذ المدرسة الرسمية عام 1948، انتقلت المدرسة إلى مركز جديد من ثلاث غرف، حيث كان يتمّ تدريس الصّفين الابتدائي الأول والثاني في غرفة واحدة، والصّفين الثالث والرابع في غرفة أخرى، والصف الخامس أي صف الشهادة في غرفة مستقلّة لينال تلاميذ هذا الصف الاهتمام الكافي ممّا يؤهّلهم إلى تقديم الامتحانات الرسمية، تألّف الطاقم التعليمي في مدرسة صليما سنة 1948 من ثلاثة أساتذة كان لهم الفضل الأكبر في نشر التعليم في البلدة وهم رشيد المصري وجورج عون، وألبير أبي رشيد. 

في العام 1960 تأسّست في مدرسة صليما الرسمية المرحلة المتوسّطة أي الابتدائية العالية، وأصبح القسم الثانوي مختلطًا، وكان طلّاب هذه المرحلة من أبناء بلدة صليما وهم كمال رشيد المصري، وزياد فريد المصري، وسعيد سامي المصري، وإميل شاهين، وفيلكس فريحة، وصلاح توفيق المصري، وابتسام الحوراني، وهدى بشير المصري، ورحاب رشيد المصري، ومن بلدة أرصون الياس عون، وأخوه مجهول الاسم، ومن بلدة العربانية حسيب محمود، وإدوار رزق الله، ومن بلدة قرنايل سماح هلال، وبسام هلال، ورامز هلال. 

في العام 1962 اشترى وكيل وقف عائلة المصري بناء المدرسة الحالي من آل بشور وقدّمه إلى وزارة التربية في البداية مجانًا ومن ثمّ بالإيجار الزهيد. كانت مدرسة صليما قبل سنة 1976 تعتبر مدرسة الجوار "العربانيّة، الدليبة، حاصبيا، أرصون، قرنايل، كفرسلوان، ترشيش". أما بالنسبة إلى حياة المدرسة الداخلية، في الحقبة الممتدة من سنة تأسيس المدرسة الرسمية عام 1946 وحتى عام 1960  كانت المدارس تعتمد في تدفئتها على الحطب، قبل أن تدخل مادة المازوت في الشعلة، وكان على كل طالب في هذه الحالة أن يحمل معه إلى المدرسة عودة حطب يابسة، وكان الأستاذ رشيد يراقب من بعد، كل طالب يتخلّف ولم يحضر معه عودة الحطب يتعرّض للقصاص والضرب أو العودة إلى المنزل ليأتي بالحطب. وكم كان حظ بعض التلاميذ جيّدًا، ممّن يوجد في منزله "وجاق" أو موقد فيه فرن يضعون الحطب فيه كي يسخن فيحملون القطعة وهي دافئة لتساعدهم على قتل البرد في الشتاء القارس في طريقهم إلى المدرسة. كذلك كانت إدارة المدرسة تعتمد على النظافة الذاتية لطلاب الصفوف. 

 *_ مؤلفاته 

يملك الأستاذ رشيد ديوانًا من الشعر باللّغة العربية ذاكرًا به كل الأشعار والخطابات التي قالها في حياته، اسم كتابه نفحات الجبل. 

رشيد المصري، نفحات الجبل، مطابع زين الدين، لبنان، د.ت.

 يهدي الأستاذ رشيد المصري كتابه الى أرواح شهداء الجبل الميامين الذين رفعوا باستشهادهم شأن التضحية والفداء وعلّموا العالم كيف ينتصر طلاب الحق مهما قلّ عددهم على أتباع الباطل ولو فاقوا الرمال بأعدادهم، والذين سقوا بدمائهم الزكية تربة هذا الوطن الغالي لتنبت فيها أغراس العزة والكرامة والعدل والإنصاف عوضاً عن أغراس الظلم والإجحاف والتمييز العنصري، والذين يشرّفهم أن يكون على رأسهم شهيد العرب الأكبر المعلم كمال بك جنبلاط. 

يقول في مقدمة كتابه "لا شك ان أول واجبات المثقّف خلال الأحداث التي تعصف ببلاده ان يؤرخ وقائعها من خلال كتابته التي تكون بمثابة شريط سينمائي يعرض أهم تلك الأحداث معتمداً على سعة معرفته ونبل أهدافه الرامية إلى جعل تلك الكتابات دروساً يستفيد منها مواطنوه لمداواة عللهم الاجتماعية ولترسيخ الحقائق في اذهانهم. كما يعتمد على الإستضاءة بأنوار الحقيقة التي يحاول المصطادون في الماء العكر طمسها بما يتشدقون به من تغنٍ بالحضارة والرقي اللذين لم يعرفوا منها إلَّا اسميهما لأن ما يقومون به من أعمال همجية بربرية يدفع الناس الى ازدراء حضارتهم الزائفة ورقيَّهم الكاذب". 

ويختم بالقول: "ما القصائد التي يتضمنها هذا الكتاب الّا مرآة تتجلى فيها نفسية فردٍ متحرّر من أبناء هذا الوطن الصغير بمساحته الكبيرة وبعبقرية أبنائه المعذب بتعدد طوائفه وعنجهية المتسلطين عليه آملاً أن تكون جزءاً من الجذوة التي تؤججها نفثات الكتاب والأباء والشعراء لتحرق ادران الحقد والطائفية والغرضية التي باخفائها تبرز شعلة الوطنية الصحيحة والعدالة الاجتماعية والإنسانية المثلى  وعلى الله الإتكال في كل حال".

 *- وفاته 

في 15/12/2004، غيب الموت أستاذنا ومعلمنا الحبيب الغالي، ومديرنا الوفي " الأستاذ رشيد المصري" جسداً، وقد صلَّى على جثمانه الشيخ أبو سليم رؤوف المصري في المركز الاجتماعي لعائلة المصري، وبحضور عدد كبير من المشايخ الأجلاء ومن أبناء الوطن ومن السويداء وجرمانا، وقد وري الثرى في مدافن العائلة في بالقرب من مزار الست زهر ابي اللمع. 

وبوفاته طويت صفحة من تاريخ صليما الثقافة والعطاء فقد عرفنا الفقيد معلماً هادئاً، متسامحاً، راضياً، قنوعاً، ملتزماً بانسانيته كما هو ملتزم بدينه وواجباته الدينية. حمل الامانة باخلاص، واعطى للحياة والناس جهده وخبرته وتجربته وحبه لهم. تمتع بخصال ومزايا حميدة جلها الايمان ودماثة الخلق وحسن المعشر وطيبة القلب، متميزاً بالدماثة، والتواضع الذي زاده احتراماً وتقديراً ومحبة في قلوب الناس والطلاب وكل من عرفه والتقى به. وهل هناك ثروة يبقيها الانسان بعد موته أكثر من محبة الناس...؟! 

ويا أستاذ رشيد سأقول لك أنك ستبقى في قلوبنا ما بقينا على قيد هذه الحياة، ولن ننساك أبداً، وستظل بأعمالك ومآثرك وسيرتك نبراساً وقدوة لنا.