تَأمُّلَاتٌ 🍂

الكاتب عماد الاعور


فِي خَفَاءِ القَلْبِ، تَحْتَ ضَجِيجِ الظَّوَاهِرِ، هُنَاكَ صَوْتٌ صَامِتٌ، كَأَنَّهُ صَدَى الوُجُودِ نَفْسِهِ، يُنَادِي الإِنْسَانَ إِلَى تَأَمُّلٍ أَعْمَقَ، إِلَى إِدْرَاكٍ أَنَّ الحَيَاةَ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ أَحْدَاثٍ، بَلْ مَجَازٌ عَظِيمٌ، تَنْعَكِسُ فِيهِ الصِّرَاعَاتُ الدَّاخِلِيَّةُ بَيْنَ أَقْطَابٍ مُتَصَالِحَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ.
الصِّرَاعُ بَيْنَ العَاطِفَةِ وَالنَّامُوسِ، بَيْنَ النَّفْسِ وَالوَعْيِ، بَيْنَ العَقْلِ الفَرْدِيِّ وَالوِجْدَانِ، لَيْسَ عَلَامَةَ خَلَلٍ، بَلْ نِدَاءُ تَكْمِيلٍ؛ نِدَاءٌ إِلَى الوَاحِدِ الأَحَدِ، الَّذِي جَمَعَ الأَضْدَادَ فِي تَوَازُنٍ لا يَخْتَلُّ، وَسَنَّ قَانُونَ المَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ طَرِيقًا لِلْعَوْدَةِ.
العَاطِفَةُ وَالنَّامُوسُ؛ حِينَ تَشْتَعِلُ الحُرِّيَّةُ فِي وَجْهِ الشَّرِيعَةِ
العَاطِفَةُ نَارُ القَلْبِ الأُولَى، وَانْدِفَاعَةُ الحَيَاةِ الَّتِي لا تَعْتَرِفُ بِالحُدُودِ، بَيْنَمَا النَّامُوسُ قَانُونُ الكَوْنِ، وَصِرَاطُ الحِكْمَةِ وَالانْضِبَاطِ.العَاطِفَةُ تَهْمِسُ: “أُحِبُّ كَمَا أَنَا”، وَالنَّامُوسُ يَرُدُّ: “كُنْ كَمَا يَجِبُ”. 

وَبَيْنَ الصُّرَاخِ وَالهَمْسِ، يُولَدُ الإِنْسَانُ الحَائِرُ.
وَلَكِنَّ الحِكْمَةَ، لا القَمْعَ، هِيَ الجَوَابُ.العَاطِفَةُ دُونَ نَامُوسٍ قَدْ تُحْرِقُ، وَالنَّامُوسُ دُونَ عَاطِفَةٍ قَدْ يُمِيتُ.وَحِينَ تَأْتِي الحِكْمَةُ، تُصْبِحُ العَاطِفَةُ نُورًا، وَيُصْبِحُ النَّامُوسُ رَحْمَةً.فَالحَكِيمُ لا يَقْمَعُ، بَلْ يُوَجِّهُ؛ لا يَمْنَعُ الحُبَّ، بَلْ يُزَكِّيهِ.
النَّفْسُ وَالوَعْيُ؛ السُّقُوطُ وَالصُّعُودُ
النَّفْسُ أَرْضٌ خَصْبَةٌ لِلرَّغْبَةِ، وَمِيدَانُ التَّجْرِبَةِ، لَكِنَّهَا تَسْحَبُ الإِنْسَانَ إِلَى الكَثَافَةِ.الوَعْيُ، فِي المُقَابِلِ، عَيْنُ الرُّوحِ مِنْ أَمْرِهَا، وَالبَصِيرَةُ الَّتِي تَرَى مِنْ فَوْقِ. هُوَ دَعْوَةٌ إِلَى التَّرَقِّي، لا إِلَى الهُرُوبِ.
لا خَلَاصَ فِي قَهْرِ النَّفْسِ، بَلْ فِي التَّهْذِيبِ، ذَاكَ الفَنُّ العَمِيقُ الَّذِي يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّغْبَةِ نَحْوَ النُّورِ، وَيُحَوِّلُ الطِّينَ إِلَى طُهْرٍ، وَالجَسَدَ إِلَى مِحْرَابٍ.
التَّهْذِيبُ هُوَ التَّجَاوُزُ لا القَمْعُ، وَهُوَ وِلادَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْإِنْسَانِ، فِي حِضْنِ وَعْيٍ يَرَى وَيُحِبُّ وَيُهَذِّبُ.
العَقْلُ الفَرْدِيُّ وَالوِجْدَانُ؛ النُّورُ وَالدِّفْءُ
العَقْلُ بَصِيرٌ، وَالوِجْدَانُ بَصِيرَةٌ.العَقْلُ يَبْنِي الحُجَجَ، وَالوِجْدَانُ يُذِيبُهَا فِي دِفْءِ المَعْنَى.وَلَكِنْ بَيْنَ الجَفَافِ العَاقِلِ وَالانْفِعَالِ الجَارِفِ، هُنَاكَ مَقَامٌ أَرْقَى: الإِلْهَامُ.
الإِلْهَامُ هُوَ لَحْظَةُ تَوَحُّدٍ، حَيْثُ يُبْصِرُ الفُؤَادُ بِالعَقْلِ، وَيَعْقِلُ العَقْلُ بِالمَحَبَّةِ.هُوَ وَمْضَةٌ مِنْ مَقَامٍ أَعْلَى، لا تَأْتِي إِلَّا حِينَ يَتَصَالَحُ الدَّاخِلُ، وَتَسْتَقِرُّ الذَّاتُ فِي حِضْنِ التَّوَازُنِ.
الثَّالِثُ الخَفِيُّ؛ الجِسْرُ المُقَدَّسُ
فِي كُلِّ صِرَاعٍ ثُنَائِيٍّ، هُنَاكَ عُنْصُرٌ ثَالِثٌ لا يُرَى، لَكِنَّهُ يُشْعَرُ بِهِ.هُوَ النَّغْمَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ وَتَرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، وَالنُّورُ الَّذِي يُولَدُ مِنِ امْتِزَاجِ الظِّلَالِ.

  بَيْنَ العَاطِفَةِ وَالنَّامُوسِ، الثَّالِثُ هُوَ الحِكْمَةُ. 

 بَيْنَ النَّفْسِ وَالوَعْيِ، الثَّالِثُ هُوَ التَّهْذِيبُ.

•بَيْنَ العَقْلِ الفَرْدِيِّ وَالوِجْدَانِ، الثَّالِثُ هُوَ الإِلْهَامُ.
هَذَا “الثَّالِثُ” لَيْسَ مَجَرَّدَ نُقْطَةِ وَسَطٍ، بَلْ مَقَامُ الوَحْدَةِ، حَيْثُ تَنْحَلُّ الثُّنَائِيَّاتُ، لا بِفَنَاءِ أَحَدِهَا، بَلْ بِتَجَاوُزِهَا إِلَى مَعْنًى أَوْسَعَ، وَأَرْحَبَ، وَأَكْثَرَ إِنْسَانِيَّةً.
الوَاحِدُ الأَحَدُ، (تَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)
فَوْقَ - لَيْسَ مَكَانًا - هٰذَا كُلَّهُ، هُنَاكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ، الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالَّذِي خَلَقَ الأَضْدَادَ لِحِكْمَةٍ، وَجَعَلَ فِي الصِّرَاعِ سُلَّمًا إِلَى الْإكْتِمَالِ.

هُوَ اللّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لا يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ، بَلْ بِتَوْحِيدِهِ تُفَسَّرُ الأَسْبَابُ.وَهُوَ الَّذِي سَنَّ قَانُونَ الرَّحْمَةِ وَتَقْدِيمِ الصَّالِحِ، لا بِمَا يُرْضِي النَّفْسَ، بَلْ بِمَا يُزَكِّيهَا.وَغَرَسَ المَحَبَّةَ فِي كُلِّ خَلِيَّةٍ، وَفَتَحَ أَبْوَابَ الرِّضَا لِمَنْ عَرَفَ، وَشَرَّعَ طَرِيقَ التَّسْلِيمِ لِمَنْ أَيْقَنَ.
وَحِينَ يَسْكُنُ الإِنْسَانُ مَقَامَ الإحْسَانِ، يَذُوبُ الصِّرَاعُ، وَتُصْبِحُ الأَضْدَادُ أَنْغَامًا فِي سِيمْفُونِيَّةٍ كَوْنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ.حِينَهَا، لا يَعُودُ يَسْأَلُ: “أَيُّهُمَا أَصَحُّ؟”، بَلْ يُهَمْسُ فِي سُكُونٍ:“رَضِيتُ بِالنُّورِ طَرِيقًا، وَبِالطَّاعَةِ وَالمَحَبَّةِ مَسْلَكَاً، وَبِالتَّسْلِيمِ نَجَاةً.”

@جميع الحقوق محفوظة