حديث الأرض وخطى العابر

الكاتبة والباحثة

الاستاذة إيمان أبو شاهين يوسف


كان الفجر قد أزاح آخر ستائر الليل حين خرج العابر الى الطريق الترابي الممتد بين الغابة والتلال. لم يحمل معه ماءً ولا زاداً، فقط قلبه الذي يميل الى الصمت، وعينيه اللتين أرهقهما ضجيج المدن.

أراد أن يمشي فحسب، أن يترك لخطاه أن تقوده كما تشاء، لعلّ الأرض تعيد إليه ما فقده من صفاء.الطبيعة تجلّت من حوله في سكونها المضيء. ندى يلمع على اطراف الحشائش كدموع الفرح. 

أغصان تنحني بلطف في تحية خفيفة. وشمس تتسلل بين أوراق الشجر كأنها تتفقد أبناءها بعد ليلٍ طويل.كانت الطيور تدور في الهواء لتكتب مقاطع من أناشيد الحياة، والريح تمرُّ بهدوء على وجه الأرض كما تمرُّ يَدُ أمٍ على جبين طفلٍها الذي يرقِد بهناء. في عبق هذا الجمال الساحر والدفء الامومي الصادق، هناك شيء ايقظ  وعيَ هذا العابر وحرّك نبضات قلبه :إنه صوت خطواته التي كانت تهمس حيناً وحيناً آخر تئنُّ. 

تارة تلتفُّ حولها أوراق يابسة تُصْدِرُ خشخشة كضحكة بعيدة آتية من أعماق الأرض. وتارةً  أخرى تضرب التراب الرطب فتصدر انيناً يشبه تنهيدة مكبوتة، كأن الأرض لا تكتفي بأن تسمع صدى الخطى، بل تردُّ عليها بشيء من الحنين، حنين لم يُدْرِِك العابر معناه .

توقَّف العابر، أصغى قليلاً ثمَّ سأل نفسه:" أأنا الذي يحدِّثُ الأرضَ، أم هي التي تكلمني بهذا الصمت الملئ بالنغمات؟"جاءه صوت خافت أول الامر ، كصدى يتردد من باطن الأرض يقول:يا من تَعْبُرَني بخفَّة، أتظن أن خطاك تمرُّ بي مرور الغريب؟كلّ دعسة منك توقظ فيّ ذكرى نائمة في حنايا فؤادي. 

أشمّ في غبارك رائحة المدن ، ورجفة القلوب التي لم تجد لها قرار بين عبث التائهين.إرتفع صوت الخطى وقالت: أهذا أنت ايتها الأرض. 

كنت أعبر لارتاح منك، وأهرب من ثقل العالم ومن فيك، لكنك تناديني كأنك تعرفيني منذ قديم الزمان.أجابت الأرض بألم وأسى: أعرفك، لأنك من ترابي وحنيني. أنتِ من الذين مرّوا عليَّ بالعرق والدمع والرجاء. انك لم  تغادري  قلبي ابدا، واليوم فإنك تعيدين تشكيل ملامحي  بصدق ورجاء.الخطى: وهل تفرقين بين من يعبرك بحثا  عن الراحة والنور، ومن يعبرك هرباً من ذاته؟الأرض: نعم . إني أميّز بينهما كما تميّز الأم أنفاس أبنائها. 

فمن يمشي بي بخشوع، ألين له طرقي. ومن يدوسني بغرور، أجعل الغبار يثقل كعبيه. أمّا أنتِ فانك تعبرين اليوم كعابدة متواضعة مستسلمة للنور جاءت لتتلو صلاتها  بصمت وصفاء، وتقدِّم قربانها بعشق وايمان ، لهذا أنصت إليكِ.شعرت الخطى بنسيم لطيف يدغدغها وكأنه يصغي هو الآخر، ثمّ هبّت الريح برفق كأنها تحمل بين ذراتها شيئاً من سلام غامض، كأن الطبيعة كلها شاركت في هذا الحديث السرّي بين الأرض وخطى العابر. 

حديث لا يُسمع بالأذن، بل يُحَسُّ في القلب الذي عاد يتذكر طريقه الأول.رفع العابر رأسه ورسم على ثغره بسمة صغيرة وهو يقول:" كلُّ ما في الأرض يسبِّح، والإنسان حين يصمت يسمع التسبيح".

@جميع الحقوق محفوظة