سلطان باشا الأطرش: البطل القادم من وهج القيم


رؤية جديدة تستنطق الروح النبيلة لقائد الثورة السورية الكبرى، وتقدّمه نموذجًا للجيل العربي المعاصر:



بقلم: فاروق غانم خداج 

كاتب لبناني، باحث في الفكر والتاريخ العربي، وعضو في نادي الكتاب اللبناني. يكتب بأسلوب وجداني متزن يجمع بين التحليل والدقة واللغة الأدبية العميقة.

المصدر: نُشرت هذه المقالة بالانكليزية على موقعي medium و substack


سلطان باشا الأطرش: 

البطل القادم من وهج القيم:
في ذاكرة الأمم رجالٌ لا يمضون، لأنهم لم يعيشوا في لحظةٍ عابرة، بل زرعوا جذورهم في المعنى، في القيم، في الكبرياء الصامت الذي لا يحتاج إلى لافتات. وسلطان باشا الأطرش، رجل من هذا الطراز النادر. لم يكن مجرد قائد ثورة ولا حامل بندقية، بل كان حامل فكرة، ووريث شهامة، وسادن شرفٍ عربيٍّ لا تنطفئ جذوته.
وفي زمنٍ يتكاثر فيه من يدّعون الوطنية، ويقلّ فيه من يحملها حقًا، نكتب عن سلطان باشا لا باعتباره ذكرى نُحييها، بل باعتباره وعدًا نُعيد اكتشافه، ونموذجًا نطرحه أمام جيلٍ يبحث عن بوصلة في متاهة من الأصوات المتناقضة.

مناقب الرجل: 

نُبل العربيّ ونُضج الوطنيّ
كان سلطان باشا الأطرش ابن بيئةٍ عربيةٍ طافحة بالنقاء. تربّى على صدق الكلمة، واحترام العهد، وكرم الضيافة، وشهامة الفعل. لم تفسده الزعامة، بل زادته تواضعًا. وكان إذا اجتمع الناس حوله، ظلّ بينهم كواحدٍ منهم، لا يعلو عليهم إلا بما يحمل من همّهم.
لكنه لم يكن أسير الجبل الذي وُلد فيه، ولا محصورًا في طائفة. العربي فيه لم يكن محليًّا، بل كونيًّا. كان يرى في الشام قلبًا نابضًا، وفي العروبة هوية أصيلة، وفي الكرامة عقيدة لا تقبل المساومة.

مناقب التوحيد: 

توحيد الفكرة لا المذهب
ينتمي سلطان باشا إلى المذهب التوحيدي المعروف بسمو مبادئه الأخلاقية والروحية، لكنه كان في سلوكه وفكره صورة حيّة لمضامين هذا التوحيد: العدل، والحرية، والتواضع، والوفاء. وقد جسّد في حياته قيم الزهد عن المناصب، والانتصار للحق، ومجاهدة النفس قبل العدو. لم يكن درزيًّا بالهوية فقط، بل موحدًا بالفعل، نذر نفسه للكرامة، واستوعب الجميع في مواقفه، فكان وطنه أكبر من حدوده، وأمته أوسع من مذهبه.

الوطن أولًا… وأخيرًا

في كل موقف من مواقف سلطان باشا، كان الوطن يتقدّم كل شيء. لم يسعَ إلى حكم، ولم يُغْرِه المجد السياسي. رفض المناصب حين عرضها الفرنسيون، ورفض التبعية حين كانت الكلفة النفي والملاحقة. آمن أن الوطن لا يُختزل بحزب، ولا يُحتكر باسم طائفة. لم يهادن، ولم يبدّل. وحتى بعد الثورة، لم يرفع مطالب شخصية، بل ظلّ في بيته، يستقبل الجميع، كما لو أن الوطن ضيفه الدائم.

أحداث صنعت الفارق
من أبرز المحطات التي تُظهر عظمة هذا القائد، كانت قيادته للثورة السورية الكبرى عام 1925، حين أعلن التمرد على الانتداب الفرنسي من قلب القريا، فألهم مدن سوريا وقراها أن تلتحق بصوته. وكان في مقدمة الصفوف، لا في مؤخرة القرارات. لم يختبئ خلف رجاله، بل سار أمامهم.وفي نفيه الطويل إلى الأردن، لم يستغل مأساته، بل حمل الوطن معه حيث حلّ، وكان على تواصل مع حركات التحرر في المنطقة.ولما عاد، لم يعد منتصرًا يحمل الأحقاد، بل حكيمًا يحمل العفو والكبرياء. وفي الوحدة السورية المصرية، كان من أبرز المؤيدين، مؤمنًا بأن المصير العربي لا يتجزأ.

احترام القادة العرب له:

 عبد الناصر مثالًا
كان سلطان باشا الأطرش يحظى بمكانة خاصة في قلب الزعيم العربي جمال عبد الناصر. ففي زياراته إلى سوريا، لم يكن عبد الناصر يبدأ لقاءاته إلا بعد المرور على القريا، حيث يستظل بظل رجلٍ وصفه بـ"الرمز النقيّ للثورة العربية".
وقد قال فيه عبد الناصر ذات يوم: "لو أن في العالم العربي عشرة من أمثال سلطان الأطرش، لما عرف الاستعمار طريقه إلينا."
هذا الاحترام لم يكن مجاملةً سياسية، بل اعترافًا من قائدٍ بتقدير قائدٍ آخر، لم تفسده السياسة، بل صقلته التضحيات.

التاريخ ليس حكاية… بل دعوة للفعل
ليست غايتنا من سرد سيرة سلطان باشا الأطرش أن نضيف اسمًا جديدًا إلى رفوف المكتبة أو نلوّن صفحات بمآثر الأبطال كما يفعل الحكواتي في المقاهي. إنما نكتب عنه لأننا نؤمن أن التاريخ، إذا ما كُتب بصدق وعُرض بفكر، يصير مادة لصناعة المستقبل لا مرآة للماضي فقط.
الأمم التي تكتفي بتسجيل البطولات في كتب، دون أن تُلهم بها أبناءها، تشبه من يقتني سيفًا عتيقًا ليزيّن به الحائط بدل أن يرفعه في وجه الظلم. فالتاريخ لا يكون علمًا إلا حين يتحول إلى تحليل، إلى قراءة فاحصة تخرج من عباءة السرد لتدخل مدرسة الفهم.
حين نُقدِّم سلطان باشا للأجيال، لا نُقدمه بصفته رجلاً عاش ومضى، بل نطرحه قدوة، ومثالًا حيًّا يُحفّز القيم في النفوس، ويدعو إلى النهوض لا التباهي.

خاتمة: 

البطل الآتي من الغد
ليس كل بطل يُستهلك مع الزمن. بعض الأبطال لا يجيئون من الماضي، بل من المستقبل. سلطان باشا الأطرش هو من هؤلاء. لأنه لم يكن رجل مرحلة، بل رجل مبدأ. ولأنه لم يقل "أنا"، بل قال "نحن"، وبقي صوته حيًّا يقول:
"الدين لله، والوطن للجميع."
فلنتعلم، نحن أبناء اليوم، أن البطولة لا تُصنع في ميادين الحرب فقط، بل في ساحات الكرامة، وفي صمت من رفضوا أن يبيعوا أو يُشتروا.
إنه البطل القادم، لا من وراء الأفق، بل من أعماق الذاكرة حين تصبح حيّة.

@جميع الحقوق محفوظة