سهرة شتاء وهاتف خليوي

ايمان ابو شاهين يوسف - 4- 6- 2023


ليل عاصف، صقيع لاذع وعزف المطر على النوافذ والسطوح يرسل موسيقى إيقاعية تبعث على الاسترخاء والهدوء.

 ضيوفنا كُثُر هذه الليلة، والمدفأة نارها تستعر، والكل يتحلّق حولها علّه يستمد شيئا من الدفء ويتمتع بمنظر لهيب نارها الذي يرسم لوحاتاً تجريدية حمراء عند فتحة واجهتها.

 جَمْعَة جميلة، جعلتني اشعر بعاطفة عارمة تشدني الى ليالي الحكايات القديمة، والتي نشتاق اليها في أيامنا هذه بسبب التباعد بين الناس وندرة اللقاءات العائلية. 

هذه الجَمْعَة الجميلة دفعتني لأن أنهض وأُحْضِرَ ألذّ وأطيب ضيافة تليق بالضيوف، وتتناسب مع أجواء الشتاء الرومنسية. 

أحضرت الشاي الساخن وأنواع الحلوى الشهيّة، والمكسّرات على أنواعها، مع الفواكه المجفّفة وسلّة مليئة بالفواكه الشتوية الطازجة، ورحت أقدم لكلّ ضيف ما يريد والفرحة تغمر قلبي والدفء يتسلّل الى نفسي. 

بعد أن انتهيت من واجب الضيافة أخترت الجلوس بقرب ضيفي العجوز تكريما له وإعجابا بإنجازاته عبر هذا العمر المديد. وللاستفادة من خبراته طلبت منه ان يحدّثنا عن التجارب التي أجتازها خلال عمله ونضاله في هذه الحياة علّنا نأخذ منها دروسا للمستقبل المنتظر.

 هذا العجوز الذي خاض غمار الحياة، وكاشف جميع أسرارها عرف الطيّب منها كما عرف الخبيث. وعمل بصدق وجهد لرفع شأن ابناء بلدته وتحقيق سبل التقدم والرقيّ لهم. كما ناضل من أجل بناء عائلة صالحة تعطي أبناءً قادرين على خدمة هذا الوطن وابنائه. 

استجاب العجوز لطلبي وراح يقصّ علينا أخبارا عن المواقف الصعبة التي واجهته أيام شبابه، وكم جاهد حتى يستطيع التعلّم، وكيف كان والداه يكافحان من اجل تأمين حياة كريمة للعائلة، وانّه عندما كانت تضيق به الدنيا كان يلجأ الى جدّه الذي كان يعينه على إيجاد الحلول وقال: 

ذات يوم بينما كنت في طريق عودتي الى البيت بعد نهار طويل من الدرس والعمل، مرّت بقربي سيارة بيضاء فخمة تقلّ رفيقة لي في المدرسة رائعة الجمال والمظهر، رمقتني بطرف عينها دون ان يتحرّك لها رمش. أحسست بحرج وألم في نفسي وأنا الذي يجدّ ويجتهد لكي يكون بين المتميزين في المدرسة، فتأتي هذه الفتاة لترمقني بنظرة شفقة فقط لأنها ثرية وتستقلّ سيارة فخمة وأنا أسير على الأقدام!!! 

لشدّة ألمي والجرح الذي أصابني لم أجد غير جدّي ليخفّف عنى بسعة حكمته ووضوح بصيرته. وبعد ان سمع شكوتي وأبلغته القرار الذي سأتخذه قال لي: يا بني إن هذا الحدث لا يستحق ردة الفعل هذه، ألا تبالغ قليلاً؟ 

أجبته: لا يا جدّي لا أبالغ وانت تقول هذا لأنك لم تر عينيها وهي ترمقني بتلك النظرة!

 قال جدي: ومن قال انها قصدتك انت بنظرتها؟ 

أجبته: أنا متأكّد من ذلك؟ 

قال: وكيف تتعاملان في الصف، فهل تتعاونان بالدرس أو تتحدثان حديث الزملاء؟ 

أجبته: لا، بل أنني دائما أحاول أن ألفت انتباهها بنجاحي وتميّزي. 

قال: إذن المشكلة بك انت؟

 أجبته: كيف ذلك؟ 

قال: لأنك تقول احاول وهذا يعني أنك لست واثقاً كل الثقة بنفسك وهذا ما جعلك تشعر اليوم بأنها ترمقك وتشفق عليك. لهذا يا بني فإن الحلّ بيدك.

 أجبته: وكيف يكون بيدي وأنا أفعل كل ما في وسعي ولم أستطع حتى الآن ان أكون قريبا منها؟ 

قال: تستطيع ذلك عندما تزيل الفارق بينك وبينها! 

أجبته: وكيف أزيله؟ قال: بالصعود الى حيث هي تقف! 

أجبته: وكيف أصعد الى حيث تقف؟ 

قال: بالعلم وحسن العمل! 

أجبته: وماذا نعني بحسن العمل؟

 فجأة توقف العجوز عن الكلام وراح ينظر من حوله.  

 لم استوعب ماذا حدث ولماذا توقف فجأة عن الكلام، لأنّي كنت أصغي بفرح وإعجاب لكل حرف يقوله. رفعت رأسي محاولاً استطلاع الأمر بعيون ضيوفي علّني أجد الجواب عند أي أحد منهم، لكن خيبتي كانت كبيرة حيث وجدت بأنني الوحيد الذي كان يتابع حديث العجوز، أما باقي الضيوف فكل واحد منهم مشغول بهاتفه. لكي أخفف من صعوبة موقفي أمام ضيفي العجوز رحت أحث ضيوفي على المتابعة عبر كمٍّ كبير من الأسئلة المتلاحقة: هل أعجبتكم قصص زائرنا العجوز؟ هل استفدتم بشيءٍ من تجاربه؟ هل تأكدتم ان القيم الأخلاقية والاجتماعية ضرورة إنسانية؟ وهل...... 

لكن ما من أحد يجيب. هذا يتابع تعليقات إحدى الموهوبات بفنون الفكاهة والهزل على موقع التيك توك. 

وذلك يتصفّح آخر الاخبار الرياضة. وذاك يقرأ عناوين الصحف. وأخرى تفتّش عن وصفة لصناعة الحلوى. امّا من يجلس في زاوية الغرفة فكان يتبادل الرسائل على صفحة الفيس بوك مع احدى المعجبات ويده لا تتوقف عن الكتابة والبسمة لا تفارق وجهه... 

طأطأت رأسي خجلا، وانا من دعوت العجوز للحديث، وكنت أعتقد أنها فرصة لكي يستفيد شباب اليوم من تجارب رجال الامس فيأخذوا العبر ويزدادوا معرفة توفر عليهم الوقوع في التجارب وتعطيهم مفاتيحاً للحلول. 

ماذا عساي ان أقول؟ وكيف سأعتذر منه؟؟ 

لا حظ العجوز ارتباكي وخجلي فرفع يده وأخذ يربت على كتفي وهو يقول: لا تلم نفسك يا بنيّ، فانت اليوم أزلت عن ظهري حملا ثقيلا، لكنّهم أشعلوا في قلبي نارا لا تنطفئ. وكلّ ما كنت اعتبره متاعب ومصاعب في هذه الحياة الطويلة، هانت عليّ اليوم بعد ما شاهدت ما وصل اليه المجتمع الإنساني. 

واقع مرير تفكّكت فيه الروابط والعلاقات الطيبة بين الناس، وزالت من المجتمعات المبادئ والقيم، وغاب الناس عن الواقع ليعيشوا في سراديب الخيال، عيشة تحكمها التفاهات والغرائز، وراحوا يعيشون أحلام اليقظة من وراء شاشات هواتفهم فيظنون ما يرونه ماءً ليجدوه في الواقع خيالاً وسراب. زالت الثقة وتحوّل الطموح الى توحش وصار الناس ينهشون بعضهم بعضا دون رحمة او خجل، فخسروا انسانيتهم كما حرموا منها أجيال المستقبل. هذه الإنسانية المشبعة بالمحبة والقيم والتي فيها سعادة الإنسان وخلاصه. 

واليوم يا بني فإن الإنسان أشبه بالأرانغوتان أي إنسان الغاب الذي يعيش بشكل انفرادي في البرية ولا يلتقي مع شريكه في الحياة إلاّ للحظات قصيرة له فيها حاجة، أو للتسابق على الاستحواذ بخيرات الغابة ثم يبتعد ليعيش العزلة في وكره. 

بحسرة وخوف سألت العجوز: وكيف نستطيع أن نجتاز هذه المحنة يا كبيرنا؟؟؟

 أجاب العجوز: بالمعرفة يا بني، فمن عرف الداء سهل عليه إيجاد الدواء. 

نهض جميع الضيوف وودعوا مغادرين، فبادلتهم التحية المقرونة بالتمني قائلا: عسى ان يكون قد وصلكم شيء من المعرفة!!! 

 ثمّ رحت أصلّي وأقول: إرحمنا برحمتك يا الله واهدنا سواء السبيل.