
الكاتبة والباحثة
الاستاذة إيمان أبو شاهين يوسف
تتلاشى الإنسانية كلما مشينا في شوارع العالم وعيوننا غافلة عن البشر .
نمرّ قرب الأرواح المكسورة وندير الظهر دون ان نصغي لأنينها الذي يخرج مع أنفاسها المتألمة. نعبر بجانب الجراح الدامية كعابري حلم، ونواصل السير كأن الصمت لم يصرخ في وجوهنا.
وهكذا!!! يغدو البكاء صلاة خافتة خلف الجدران، والجوع ظلاًّ يمرُّ بلا هوية، والمرض رحلة يتعثر فيها المرء في عزلته القاسية، والوجع حجراً يثقل صدر صاحبه دون ان تمتد اليه يد معين.
عند تلك اللحظة القاسية ندرك أن الإنسان لم يخسر غير وجهه الإنساني الذي كان مرآة لأخيه، بعد ان أسقط مكانه ألآف الوجوه المزيفة التي تتلوّن باللامبالاة، وتتحصّن بقلوب حجرية تتقن فنَّ الهروب من الحس الإنساني. كم مرّةٍ رأينا يداً تستنجد بنا فأدرنا ظهورنا؟ كم مرّة سمعنا نداءًا خافتاً، فاختلقنا الصمم كي لا نتعب ضمائرنا؟ كم مرّةٍ قلنا في سرِّنا:" وأنا ما علاقتي" كي نرتاح وننام؟ ولكن، أيُّ راحة هذه وأيُّ نوم؟ نحن لا ننام، نحن نهرب.
نهرب من إنسانيتنا، من مرآتنا، من الحقيقة التي نكره رؤيتها. الحقيقة المؤلمة التي تقول: أن مجتمعاً بلا تعاطف هو مجتمع ميت. وأن كلُّ واحدٍ فينا يساهم في هذا الموت حين يختار نفسه على حساب العالم. ما أشدَّ بشاعة أن ترى فقيراً ينهار ويقول:" الله يعطيك أعطنا"، فلا تكترث وتقول: " الله يساعده "، بينما أنت تستطيع أن تكون المساعد. وما أشد قسوة أن ترى عجوزاً يتعثّر ولا تتحرّك، أو طفلاً يصرخ ولا تقترب، أو أمّاً منهكة وتحاول أن تستغلّها، ثمّ تدعي أن قلبك حيّ . أي قلب هذا؟ وأي إنسان هذا؟.
إننا نصبح أقلُّ آدمية كلَّ يوم، ليس لأن عدد البشر يزيد، بل لأن الخير يصغر في نفوسنا. ولأننا اخترنا أن نغلق أبوابنا ونصمُّ آذاننا ونقفل قلوبنا ونبني لأنفسنا حصوناً وهمية نتصور فيها أننا في مأمن. لكن الحقيقة التي ستجلدنا يوما ما هي إلاّ أننا لن نكون في مأمن أبداً ما دام غيرنا يتألم ويُظْلَم. الوجع الذي نراه ونتركه اليوم سيعود ليطرق بابنا غداً.
واليد التي لم نمدها بالعون اليوم ستكون اليد نفسها التي سنحتاجها غدا ولن نجدها ابدا. إن الإنسان الذي يعيش لنفسه فقط هو إنسان ناقصٌ، هشٌّ، مكسورٌ من الداخل مهما بدا قويّاً. والأنانية مطلقاً ليست ذكاء، بل فشل روحي أبشع من أي فقر.
والمجتمع الذي يتكوَّن من أفراد لا يشعرون بغيرهم هو مجتمع يسير الى هلاكه ببطء مؤلم. فليقرأ كلُّ واحدٍ منا هذا الكلام وليتوجّع به.
لأن من لا يتعلّم اليوم كيف يتألم لغيره، سيختبر غداً ألماً لن يجد له صدراً يتّسع ولا يداً تمتد. فالعالم لا ينهار حين يشتدّ الظلم، بل حين نصبح شهوده الصامتين.
@جميع الحقوق محفوظة