عيد الأضحى عند الموحدين


 إشراق الروح في ميقات الطاعة

فاروق غانم خداج كاتب لبناني

 وباحث في الأدب والفكر الإنساني 


حين يدخل شهر ذي الحجة، وتبدأ أيامه العشر تتفتح كشذى الوحي في فضاء المؤمن، يتحرّك في قلب الموحِّد نبضٌ خاص، لا يشبه سائر المواسم. ففي هذه الأيام المباركة، التي عظّمها الله في كتابه، تتنزل الرحمات، وتُفتَح أبواب التوبة، وتُرفع الأعمال الخالصة، وتسمو الأرواح إلى مدارك القرب.
قال الله تعالى:﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]،وقال: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1-2]،وفي هذا إشارة إلى قدسية الأيام العشر من ذي الحجة، التي يحرص فيها الموحدون على الإكثار من ذكر الله، والاستغفار، والدعاء، وصلاة التوبة، وإخلاص النية في الأقوال والأعمال، تأسّيًا بهدي القرآن، وتعبيرًا عن الإيمان الصادق الذي يسكن أعماقهم.
عند الموحدين الدروز، لا تُختَزل العبادة في ظاهر الشعائر، بل تتجاوزها إلى عمق البصيرة، وإلى صفاء السريرة، وإلى استحضار المعنى قبل المظهر. وفي هذه الأيام، يُستحبّ الصوم لمن استطاع، لا على سبيل الفرض بل كوسيلة لتهذيب النفس، كما يُستحب الإكثار من الأعمال الصالحة، ومساعدة المحتاجين، وبذل الكلمة الطيبة، وإصلاح ذات البين.
وفي اليوم العاشر، يحلّ عيد الأضحى، وهو في اللغة مشتق من “الضُّحى”، أي الوقت المشرق من النهار، ومنه اشتُق اسم الأضحية التي تُذبح في ذلك الوقت تقربًا إلى الله.

أما في فهم الموحدين، فـ"الأضحى" لا يقف عند الذبح الرمزي، بل يُفهم على أنه ذبحٌ للهوى، وتضحية بالأنا، وتقديم القلب طاهرًا على مذبح الطاعة، حيث يكون القرب من الله بالصدق، لا بالدماء، وبالنية، لا بالشكليات.
عيد الأضحى في عقيدتهم عيد العقل الخاشع، والروح الخاضعة، والنفس الزاهدة. يُستحب فيه:
إقامة الصلاة في وقتها بخشوع وخضوع، فهي عماد القرب من الله.
الإكثار من ذكر الله، بالتحميد والتهليل والتكبير، اقتداءً بإبراهيم عليه السلام، الذي قال له ربه: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾.
البرّ بالوالدين، ومواساة الضعفاء، ومدّ يد العون للفقراء، عملاً بقوله تعالى:﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92].
الإصلاح بين الناس، وطلب الصفح، ونشر السلام، تطبيقًا لقوله:﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10].
قراءة الحكمة والتأمل فيها، والارتقاء في درجات الفهم، إذ يعتبرون أن العقل نور الله في الإنسان، ومجال الطاعة الأسمى.
وفي القرى الجبلية، حيث يسكن أهل التوحيد، تتجلّى أجواء العيد في السكينة والبساطة. لا مظاهر صاخبة ولا مظالم مستترة، بل توادّ وتراحم، ومجالس عامرة بالدعاء، وأحاديث الإيمان، وتبادل للتهنئة والدعاء بالصلاح والسلامة.
إن عيد الأضحى عند الموحدين هو استئناف للعهد مع الله، وتجديد للنية، وفرصة لإظهار التقوى كما أرادها الله في قوله:﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ [الحج: 37].

ومن هنا، فإن جوهر العيد ليس في ما يُؤكل أو يُلبس، بل في ما يُطهَّر ويُهذَّب في النفس.
هو موسم يتزوّد فيه المؤمن من معين القرآن، ويُجدّد فيه قلبه، ويتطهّر من قسوة الأيام، ليبدأ عامًا جديدًا بنقاء أعمق وإيمان أرسخ.
كل عام وأنتم بخير. أضحى مبارك، وسلام على من وحّد الله وصدّق بوعده وسلك سبيل العقل والتقوى

@جميع الحقوق محفوظة