هيسم جادو أبو سعيد - 16 -4 -2022
آب… يفرد لظى غيومه… يظلل بجمره حزننا… يعرّي بما تصبّب من صديد أرواحنا كذب ابتساماتنا… والغصة المخنوقة فينا تفضح الصراخ في همساتنا… في حضرة كومة من كتب… بل كومة من قلوب محتضرة فوق الطاولة، وبين جدران منزل أراها بأم عين يقيني تتداعى! كنت أنظر إليك… لأول مرة في لقاءاتنا تتعجلين انصرافي… تتعمدين التغيب عني في المطبخ بحجة تحضير القهوة… في الموزع الذي يضم مكتبتك بحجة البحث عن مزيد من الكتب وإحضارها للانضمام إلى ما تكوّم منها منتظراً تشييعه… إلقاء نظرتك الأخيرة… لهفتك الأخيرة عليها!!
ما زلت أذكر لقاءنا الأول… كأنه حدث بالأمس… أمام كثير من الكتب، مثل لقائنا هذا الذي قد يكون الأخير! كنا قد أردنا شراء النسخة الوحيدة من الكتاب ذاته… تذكرينه… أنا متأكدة… "شكاوى المصري الفصيح"... جهزت نفسي للمشاجرة… حشوت صدري ببارود الصراخ، وحنجرتي بقذائف الكلمات التي لن تستطيعي الرد عليها دفاعاً عن ما كنت أراه حقي في هذا الكتاب، استعداداً لتفجير كل هذا في وجهك، لكنك كنت أرق من أن تتشاجري، وأجمل من أن تغضبي حين اقترحتِ، بكل بساطة:
- ما رأيكِ أن تشتري أنت الكتاب وتعيريني إياه؟!
ثم مددت يدك لمصافحتي مع ابتسامة أسرتني، لأسمع اسمك للمرة الأولى:
- مها…
لن أذكّرك بذاك اللقاء لأنه سيلقيك فريسة لتلك "الشكاوى" التي قرأناها معاً وناقشنا الكثير من تفاصيلها معاً! كنت أؤكد أن كثيراً مما ورد في تلك الرواية يتجاوز حدود المبالغة، فهل يبيع البشر أولادهم وأنفسهم؟! بينما كنت ترين الأمر واقعياً جداً، ومتكرراً جداً، دون أن أتصور أنني سأراك يوماً تتحولين إلى شخصية أكثر مبالغة من شخصيات تلك الرواية وأنت توزعين فلذات كبدك على الأصدقاء، كي تتمكني من الرحيل متخففة منهم!! كنا طوال سنوات صداقتنا فأرتَي كتب، لكنك كنت ملهمتي ومرشدتي إلى أروع وأغرب ما قرأت، لتبهريني بعينَي زرقاء اليمامة اللتين تملكين، وبذائقة رقيقة حساسة كسهل ثلجي ناصع،لهذا لا يمكنني أن أنسى حزننا ودهشتنا معاً أمام "ذاكرة الجسد"... صدمتنا معاً "بامتداح الخالة" و"لوليتا"... توجسنا معاً من كل سطر تال في "أولاد حارتنا"... إصرارنا الطفولي معاً على قراءة المؤلفات الكاملة لكازانتزاكي وماركيز وكونديرا، والتقاط كل ما يصدر حديثاً لمينا والأعرج والكوني ومعلوف وكويلو وغيرهم وغيرهم… كنا نعيش معاً حيوات تلك الشخصيات… نبكي معها… نضحك معها… نغضب… نحزن… نتلهف… نعشق… نكره معها!
أذكر أننا تناقشنا كثيراً في وضعنا هذا بكثير من الجدية أحياناً وبكثير من السخرية أحياناً أخرى! أليس هذا شذوذاً؟! ابتعادنا عن المشاغل اليومية والاعتيادية للنساء في مثل عمرنا… طبخة اليوم… أدوات التجميل… الفساتين الدارجة…. نميمة الصباح!! أليس هذا هروباً؟! من ظلم يلطمنا بعارضيه يومياً دون مسحة الجمال التي يضفيها عليه الأدب… من حزن ينبعث غزيراً من كل ما حولنا دون أن نتمكن من ذرف أيّ من دموعنا التي كنا نذرفها فوق صفحات الكتب… من أحلام ذبلت مع ذبول أعمارنا فرُحنا نعوّضها لدى أبطال لا ييأسون مثلنا!!
وها أنت الآن تضعين كل ما عايشناه معاً طوال سنوات في كومة واحدة، على طاولة أمامي لم تعِ فداحة حِملها لتتكسر تحته أو تحترق… تهدينني ما لم يكن يوماً لك وحدك، وما لن يكون يوماً لي وحدي! ففي غدٍ سترحلين لتتركيني وحدي… ستقصدين بلاد اللجوء هرباً من بلاد تأكل أولادها… ستخاطرين بما بتنا على يقين من أنه وهم الحياة بحثاً،عما لن يكون إلا وهمَ الحياة! ستسلمين روحك المتوقدة إلى نخّاسي الحدود ومهربي بضاعة البشر التي باتت الأكثر رواجاً والأبخس ثمناً مما سواها من الممنوعات! ستلطمين موج البحر بزورق متهالك وسترة واهية للنجاة… ستخترقين كرصاصة قلب الغابة لتبتسمي لمن سيصادفك من سيد عملس وأرقط زهلول ووحوش لم ترقَ قدرات الشاعر إلى تخيلها، وقد باتوا أهليك دون بني أمك الأشد وحشية وافتراساً… ستطوين أفاعي الطرقات المتلوية بما أُفعِمت به من سم ّ ناقع، وتتحدَّين هراوات الرفض والقنابل المسيلة للدموع وأنت ترينها لا ترقى إلى القنابل السافكة للدماء التي خرجتِ من بلادك هرباً منها!! وإلى أن تصلي ستواجهين وستواجهين… ما لا يمكنني أن أتخيله، أو ما لا أرغب في أن أتخيله… لكنك ستظلين مصرة على الرحيل!!
وها أنا أتململ محاولة أن ألبي رغبتك العارمة في انصرافي كي تنالي فسحتك الكافية من الدموع، لآخذ معي بعضاً من هذه الكتب التي لن تقبل بأقل من أن تحترق وتحرقني معها إذا ما تجاوزتُ عتبة بابك! لكنني لن أخذلك… سأغادر… سأتركك قبل انهيار سدود دموعك في عيون المها… عيون المها اللواتي، في هذه المرة، ولأول مرة مذ عرفتها، قد جلبن الأسى…