فاروق غانم خداجكاتب لبناني
وباحث في الأدب والفكر الإنساني
تقع محافظة السويداء في قلب جبل العرب، ذاك الجبل الذي اعتاد أن يعانق السماء ولا يركع، وأن يحمل في صمته كبرياء الأحرار، وفي صخوره صلابة الموقف. عبر السنين، لم تكن السويداء مجرد بقعة جغرافية جنوب سوريا، بل كانت ضميرًا حيًّا للمقاومة، وذاكرةً موثقة لتاريخ من العزة الوطنية والعروبة الصادقة.
رغم ما عرفته من استقرار نسبي في ظل النظام السوري، لم تنعم السويداء بالعدالة في التنمية ولا بالإنصاف في الاهتمام.
طالتها يد الإهمال، وأُقصيت عن الأولويات، فعانى اقتصادها من الشلل، وتراجعت خدماتها، وافتقرت بنيتها التحتية إلى الحدّ الأدنى من الدعم.
لكن أهل الجبل لم ينكسروا، بل حافظوا على وحدتهم، ورفضوا الانجرار إلى الفوضى، متمسّكين بالسلم الأهلي، ومستنفرين لكل ما يهدد كرامتهم.
وللسويداء صفحات مضيئة في سجل النضال العربي. من أبرزها حادثة المناضل اللبناني الجنوبي أدهم خنجر، الذي لجأ إلى دار سلطان باشا الأطرش فارًّا من ملاحقة الاستعمار الفرنسي. فاحتُضن بصفته ضيفًا عربيًا كريمًا، لكن قوات الاحتلال انتهكت حُرمة الضيافة، فداهمت الدار واختطفته، في تحدٍّ صارخ لأعراف الشرف العربي.
كانت تلك الإهانة كفيلة بأن تفجّر الغضب في صدر قائد الثورة، فكانت شرارة الثورة السورية الكبرى عام 1925، التي انطلقت من السويداء لتدوّي في أنحاء البلاد، رافعة شعار: الحرية أو الشهادة.
اسم سلطان باشا الأطرش لا ينفصل عن اسم السويداء. كان قائداً وحدويًا، مؤمنًا بسوريا الكبرى، وبالهوية العربية الجامعة.
لم يقف نضاله عند حدود، بل امتد إلى فلسطين، فاعتبر قضيتها قضيته، ونكبتها نكبته، قبل أن تصبح الشعار الشائع في الميادين. لم يُعرف عنه ترف الخطابة، بل صدق الالتزام، وسداد الرؤية.
وقد تجلت رمزية السويداء ومكانتها حين زارها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مُعبّرًا عن تقديره لدورها البطولي ومكانة سلطان باشا في التاريخ العربي. كما زارها لاحقًا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، شاكرًا مواقف أهل الجبل الذين احتضنوا القضية الفلسطينية وساندوها بالفعل لا بالكلام، بالدم لا بالمزايدة، وبالوفاء الذي لا يعرف المساومة.
وتحتفظ السويداء بعلاقة راسخة مع جيرانها في المملكة الأردنية الهاشمية، حيث يشكل الموحدون الدروز جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني، يقدمون نموذجًا راقيًا للولاء والانتماء، ويجسّدون وحدة الدم والمصير المشترك.
لكن الرياح العاتية لم تُمهل أحدًا.
ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011، ظهرت جماعات متطرفة في ريف دمشق، لا سيما في جرمانا وأشرفية صحنايا، مارست العنف والقتل بوحشية.
أما السويداء، فقد واجهت تلك المرحلة المظلمة بعقل بارد وروح مسؤولة، فرفضت الانجرار إلى أتون الصراع الطائفي، واختارت الانضباط، متمسكة بخيار الدولة، رغم شعورها المتنامي بالغُبن والتهميش.
حين رفض أهل الجبل تسليم سلاحهم، لم يكن ذلك تمردًا، بل تعبيرًا عن حاجة مشروعة للدفاع عن أنفسهم، في ظل شبه غياب لأجهزة الدولة.
لم يُستخدم السلاح في اعتداء، بل وُجّه فقط صوب من يهدد أمن المجتمع وحرمة الأرض.
ورغم هذا التاريخ المشرّف وهذا الثبات الأخلاقي، ما تزال السويداء تقبع على هامش المشهد السوري.
تُعاني من الحصار الاقتصادي، وتُحرم من التمثيل السياسي الفاعل، وتُقصى من دوائر القرار. ومع ذلك، لا يزال الجبل شامخًا، يحمل كرامته كراية، ويُصغي لصوت الواجب لا لضجيج المساومة.
فإلى متى يبقى الجبل صامدًا وحده؟أما آن لهذا الوطن أن يلتفت إلى أحد أعمدته؟أليست السويداء مستحقّة لعودة عادلة إلى حضن الدولة التي دافعت عنها يوم عزّ النصير؟
إن مستقبل السويداء لا يُرسم في دهاليز السياسة الضيقة، بل في ضمائر الأحرار.وكرامتها لن تُصان بالشعارات، بل بإرادة تصونها، وبشراكة تعيد لها دورها كمُرتكز من مرتكزات الأمة.
@جميع الحقوق محفوظة