
كَرَمُهُ، حُضُورٌ يَسْبِقُ الفِكْرَ، وَيَتَجَاوَزُ الْقِيَاسَ، وَيَتَجَلَّى نُوراً يَفْتَحُ لِلْوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَفَيْضًا يَسْرِي فِي الْكَوْنِ سَرَيَانَ الرَّحْمَةِ فِي الْحَيَاةِ.
هُوَ عَطَاءٌ يَنْبَعُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيلٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ أَوْ صُورَةٍ.
كَرَمٌ يَظْهَرُ فِي كُلِّ تَجَلٍّ، وَيُدْرَكُ بِالْفُؤَادِ قَبْلَ الْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْراً زَائِداً عَلَى الْوُجُودِ، بَلْ هُوَ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِ الرَّحْمَةِ، وَنَبْضٌ سَارٍ فِي كُلِّ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. فِي كَرَمِهِ تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ، وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُ الْعَطَاءِ، وَيَتَجَلَّى الْحَقُّ فِي خَلْقِهِ تَجَلِّيَ الْقُرْبِ وَاللُّطْفِ وَالِاحْتِوَاءِ.
كَرَمُهُ، لا كَمَا تُحِيطُ بِهِ العُقُولُ، وَلَا كَمَا تَحْصُرُهُ الْمَقَايِيسُ، بَلْ كَمَا يَتَجَلَّى نُوراً فَوْقَ النُّورِ، وَفَيْضاً لَا يَنْقَطِعُ، وَعَطَاءً لَا يَعْرِفُ الْحُدُودَ.
نَتَحَدَّثُ عَنْ كَرَمٍ مُنَزَّهٍ عَمَّا يَدْخُلُ وَعَمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْخَوَاطِرِ وَالْأَوْهَامِ، كَرَمٍ لَا يُقَاسُ بِالْكَثْرَةِ وَلَا بِالْقِلَّةِ، وَلَا يُقَارَنُ بِعَطَاءِ الْمَخْلُوقِينَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صِفَةً زَائِدَةً، بَلْ هُوَ تَجَلٍّ مِنْ تَجَلِّيَاتِ الْحَقِّ فِي خَلْقِهِ، وَنَبْضٌ مِنْ نَبْضِ الرَّحْمَةِ السَّارِيَةِ فِي كُلِّ وُجُودٍ.
كَرَمُهُ لَيْسَ اسْتِجَابَةً لِطَلَبٍ فَحَسْب، وَلَا مَكَافَأَةً عَلَى عَمَلٍ فَقَط، كَرَمُهُ سَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، سَابِقٌ لِلنِّيَّةِ، سَابِقٌ لِلْوُجُودِ ذَاتِهِ.
قَبْلَ أَنْ نَعْرِفَ، أَعْطَى، وَقَبْلَ أَنْ نَشْكُرَ، أَفَاضَ، وَقَبْلَ أَنْ نَسْتَحِقَّ، تَفَضَّلَ.
فَهُوَ الْكَرِيمُ لِذَاتِهِ، لَا لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ، وَلَا لِانْتِظَارِ رُدُودٍ مِنْ خَلْقِهِ.
النِّعَمُ تَعُمُّ وَتَشْمَلُ، تَسْرِي فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فِي الْمَرْئِيِّ وَالْغَيْرِ مَرْئِيِّ، فِي مَا نَعْرِفُهُ نِعْمَةً وَفِي مَا نَجْهَلُهُ وَلَا نُلْقِي لَهُ بَالًا.
نِعْمَةُ الْوُجُودِ قَبْلَ نِعْمَةِ الْمَوْجُودِ، وَنِعْمَةُ الْمَعْنَى قَبْلَ نِعْمَةِ الشَّكْلِ، وَنِعْمَةُ النُّورِ قَبْلَ نِعْمَةِ الْبَصَرِ.
كُلُّ كَائِنٍ مَرْزُوقٌ، وَكُلُّ حَيٍّ مُدَبَّرٌ، وَكُلُّ ذَرَّةٍ فِي الْكَوْنِ لَهَا حِصَّتُهَا مِنَ الْعَطَاءِ، سَوَاءٌ عَرَفَتْ أَمْ لَمْ تَعْرِفْ، شَكَرَتْ أَمْ سَكَتَتْ.
الرِّزْقُ لَيْسَ مَالًا فَقَط، وَلَا طَعَامًا فَقَط، وَلَا صِحَّةً فَقَط، بَلْ هُوَ كُلُّ مَا يُقِيمُ الْكِيَانَ فِي تَوَازُنِهِ، وَكُلُّ مَا يُعِينُ الرُّوحَ عَلَى أَنْ تَسْلُكَ طَرِيقَهَا فِي السَّلَامِ.
رِزْقٌ فِي الْفِكْرِ إِذَا اسْتَنَارَ، وَرِزْقٌ فِي الْفُؤَادِ إِذَا اطْمَأَنَّ، وَرِزْقٌ فِي الْعِلَاقَاتِ إِذَا تَزَكَّتْ، وَرِزْقٌ فِي الْأَلَمِ إِذَا تَحَوَّلَ فَهْمًا وَنُضْجاً.
وَهُوَ يَرْزُقُ مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، مَنْ يَسْأَلُ وَمَنْ لَا يَسْأَلُ، لِأَنَّ عَطَاءَهُ لَا يَخْضَعُ لِمِيزَانِ الْمُقَايَضَةِ.
وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَقْصَرِ طَرِيقٍ يَصِلُ بِهِ إِلَى شُهُودِ هَذَا الْكَرَمِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَيْسَ مُعَقَّداً وَلَا مُلْتَوِياً.
إِنَّهُ الْمَحَبَّةُ، لَا كَعَاطِفَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ كَمَوْقِفٍ وُجُودِيٍّ، كَرُؤْيَةٍ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ التَّقْدِيرِ، وَكَاسْتِعْدَادٍ لِأَنْ نَرَى الْخَيْرَ حَيْثُ يَكُونُ، وَنَحْتَرِمَ السِّرَّ الْإِلَهِيَّ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ وَكُلِّ كَائِنٍ.
الْمَحَبَّةُ تُطَهِّرُ النَّظَرَ، فَإِذَا تَطَهَّرَ النَّظَرُ، انْكَشَفَ الْعَطَاءُ الَّذِي كَانَ حَاضِراً وَلَكِنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْأَنَا وَالِاعْتِيَادِ.
وَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَنْ نَعْرِفَ قَدْرَ مَا نَحْنُ فِيهِ، لَا بِالْمُقَارَنَةِ وَلَا بِالِاعْتِرَاضِ، بَلْ بِالْقَبُولِ الْوَاعِي.
أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا لَمْ يَكُنْ صُدْفَةً، وَأَنَّ مَا تَأَخَّرَ عَنَّا لَيْسَ حِرْمَاناً بِالضَّرُورَةِ، بَلْ تَدْبِيرٌ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ رَحْمَةً لَمْ نُدْرِكْهَا بَعْدُ. التَّقْدِيرُ يَفْتَحُ الْفُؤَادَ، وَالْفُؤَادُ الْمَفْتُوحُ هُوَ أَوْسَعُ أَوْعِيَةِ الْكَرَمِ.
وَالذِّكْرُ لَيْسَ تِكْرَاراً لِأَلْفَاظٍ، بَلْ حُضُورٌ، وَاسْتِحْضَارٌ لِلْمَعْنَى فِي كُلِّ نَفَسٍ وَكُلِّ خَطْوَةٍ.
أَنْ نَعِيشَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا فِي رِعَايَةٍ دَائِمَةٍ، وَفِي كَنَفِ كَرَمٍ لَا يَغِيبُ، حَتَّى فِي لَحَظَاتِ الضِّيقِ وَالِانْكِسَارِ.
فَكَمْ مِنْ كَسْرٍ كَانَ بَاباً، وَكَمْ مِنْ فَقْدٍ كَانَ حِفْظاً، وَكَمْ مِنْ مَنْعٍ كَانَ عَيْنَ الْعَطَاءِ.
وَالشُّكْرُ هُوَ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، لَا صَوْتاً يُرْفَعُ فَقَط، بَلْ سُلُوكاً يَسْتَقِيمُ، وَنِيَّةً تَصْدُقُ، وَأَثَرًا يَتَحَوَّلُ خَيْراً فِي الْعَالَمِ.
الشُّكْرُ أَنْ نَكُونَ جُسُوراً لِلْخَيْرِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْنَا، لَا سُدُوداً تَحْجُبُهُ عَنِ الْآخَرِينَ. فَالْكَرَمُ الَّذِي نَشْهَدُهُ فِي حَيَاتِنَا يُرِيدُ أَنْ يَمُرَّ مِنَّا، لَا أَنْ يَتَوَقَّفَ عِنْدَنَا.
وَهُوَ، سُبْحَانَهُ، غَنِيٌّ عَنَّا، عَنِ ذِكْرِنَا وَشُكْرِنَا وَطَاعَتِنَا، لَكِنَّهُ فَتَحَ لَنَا هَذِهِ الْأَبْوَابَ رَحْمَةً بِنَا، لِأَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ وَهْمِ الِاسْتِغْنَاءِ، وَلِنَعُودَ إِلَى حَقِيقَتِنَا كَائِنَاتٍ تَتَنَفَّسُ بِالْعَطَاءِ وَتَحْيَا بِالْفَيْضِ.
فَكُلَّمَا اعْتَرَفْنَا بِفَقْرِنَا، اتَّسَعَ وِعَاءُ الْكَرَمِ فِينَا، وَكُلَّمَا تَوَاضَعْنَا، ارْتَفَعَ مِقْدَارُ مَا نُعْطَى فِي الْمَعْنَى، إِنْ لَا فِي الشَّكْلِ.
وَحِينَ نَتَعَبُ، وَحِينَ نَضِيقُ، وَحِينَ تَتَكَاثَفُ الْأَسْئِلَةُ فِي الْفُؤَادِ، لَا نَجِدُ مَلْجَأً أَصْدَقَ مِنْ أَنْ نُلْقِي أَنْفُسَنَا فِي حِضْنِ الرَّحْمَةِ، وَنَقُولَ مِنْ عُمْقِ الِانْكِسَارِ وَالثِّقَةِ مَعًا:
يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ.
فِي هَذَا الدُّعَاءِ يَلْتَقِي الْفَقْرُ بِالْكَرَمِ، وَتَسْقُطُ الْأَقْنِعَةُ، وَيَبْقَى الْإِنْسَانُ عَبْداً بِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ، مُعْتَرِفًا بِحَاجَتِهِ، وَاثِقًا بِعَطَاءِ مَنْ لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَلَا يَحْدُثُ كَرَمُهُ بِنَقْصٍ، بَلْ يَزْدَادُ تَجَلِّياً كُلَّمَا اتَّسَعَ الْفُؤَادُ لِشُهُودِهِ.
هَكَذَا نَتَحَدَّثُ عَنْ كَرَمِ اللهِ، لَا كَفِكْرَةٍ، بَلْ كَحَيَاةٍ تُعَاشُ، وَكَسِرٍّ يُذَاقُ، وَكَنُورٍ إِذَا دَخَلَ الْفُؤَادَ، أَخْرَجَ مِنْهُ الْخَوْفَ، وَزَرَعَ فِيهِ السَّلَامَ، وَجَعَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَاهِداً عَلَى أَنَّ الْكَرَمَ الْإِلَهِيَّ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ، وَأَقْرَبُ مِمَّا نَتَصَوَّرُ.
يَا كَرِيمُ، يَا مَنْ يَسْرِي كَرَمُهُ فِي الْوُجُودِ سَرَيَانَ النُّورِ فِي السِّرِّ، أَذِقْ فُؤَادَنَا حَلَاوَةَ فَيْضِكَ، حَتَّى نَشْهَدَ الْعَطَاءَ قُرْبًا، وَنَعْرِفَ الْقُرْبَ عَطَاءً.
أَسْكِنْنَا مَقَامَ الرِّضَا، وَارْفَعْ عَنَّا حِجَابَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، وَاجْمَعْنَا عَلَيْكَ جَمْعاً يُطْفِئُ التَّشَتُّتَ، وَيُقِيمُ السِّرَّ فِي سُكُونِ الثِّقَةِ.
يَا وَاسِعَ الْفَضْلِ، طَهِّرْ نِيَّاتِنَا حَتَّى تَصِيرَ مَجَارِيَ لِلْخَيْرِ، وَنَقِّ فُؤَادَنَا حَتَّى يَتَّسِعَ لِشُهُودِ لُطْفِكَ فِي كُلِّ حَالٍ.
أَدِرْنَا فِي فَلَكِ الذِّكْرِ حُضُوراً، وَفِي بَحْرِ الشُّكْرِ غَرَقاً، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ رَحْمَتُكَ تَجَلِّيَ الْأُنْسِ وَالِاحْتِوَاءِ.
يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ، فَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، وَأَقِمْنَا فِي كَنَفِ كَرَمِكَ قِيَامَ فَقْرٍ مُنِيرٍ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى نَبْقَى بِكَ، وَلَكَ، وَفِيكَ، شَاهِدِينَ.
@جميع الحقوق محفوظة