الكاتب عماد الاعور
هَلْ يَخْتارُ القَلَمُ التَّصَوُّفَ، أَمْ أَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ مَنْ يَخْتارُ القَلَمَ؟
أَمْ لَعَلَّ بَيْنَهُما عَهْدًا أَزَلِيًّا، خُطَّ بِنُورٍ لا يُرَى، حِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُودِ نَفَسٌ، وَلا لِلْمَعْنَى هَيْئَةٌ؟َ
هلِ القَلَمُ هُوَ السَّائِرُ، أَمِ الطَّرِيقُ هُوَ الَّذِي سَارَ إِلَيْهِ؟
وَهَلِ الحِبْرُ هَمْسٌ أَمْ إِنْصَاتٌ؟ أَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ، حِينَ يَنْكَشِفُ، لا يَكْتُبُهُ الحِبْرُ بَلْ يُمْلِيهِ عَلَى الرُّوحِ؟
فِي البِدَايَةِ لَمْ يَكُنْ صَوْتٌ، بَلْ صَمْتٌ مُكْتَنِزٌ،
صَمْتٌ يُشْبِهُ رَحِمًا كَوْنِيًّا يَتَهَيَّأُ لِلْوِلادَةِ.
ثُمَّ تَنَفَّسَ القَلَمُ أُوْلَى شَهَقَاتِهِ، لا كَأَدَاةٍ، بَلْ كَذَاتٍ تَعَرَّتْ مِنَ الفِكْرِ لِتَلْبَسَ الحُضُورَ.نَطَقَ لا لِيُخْبِرَ، بَلْ لِيَتَهَجَّى ظِلَّ الغَيْبِ عَلَى بَيَاضٍ لا يَنْتَمِي لِلزَّمَنِ.
فَالقَلَمُ شَاهِدٌ، لا عَلَى الفِكْرَةِ، بَلْ عَلَى انْكِسَارَاتِ النَّفْسِ حِينَ تُلَامِسُ سِرَّهَا.وَالتَّصَوُّفُ لَيْسَ مَذْهَبًا، بَلْ نَفَسُ الحَقِيقَةِ حِينَ تَذُوبُ المَعَانِي وَتَبْقَى البَصِيرَةُ.هُوَ الشَّوْقُ إِذَا صَارَ حِبْرًا، وَالحَنِينُ إِذَا تَجَسَّدَ فِي نَبْضٍ يُكْتَبُ لا لِيُقْرَأَ، بَلْ لِيُعَاشَ.
هَلْ يَخْتَارُ القَلَمُ الأَلَمَ، أَمْ أَنَّ الأَلَمَ هُوَ مَنْ يَخْتَارُ القَلَمَ؟
أَمْ أَنَّ الكِتَابَةَ هِيَ الوَجْهُ الآخَرُ لِلصَّلَاةِ حِينَ تَعْجَزُ الشِّفَاهُ عَنِ البَوْحِ؟
ذَاكَ الَّذِي يَكْتُبُ، لا يَكْتُبُ بِحِبْرٍ، بَلْ بِنُدُوبٍ خَفِيَّةٍ، وَحَنِينٍ لَمْ يُفْصِحْ عَنْ اسْمِهِ بَعْدُ.فَالأَلَمُ لَيْسَ طَارِئًا، بَلْ هُوَ مَقَامٌ مِنْ مَقَامَاتِ السَّيْرِ،سُلَّمٌ خَفِيٌّ، تَنْزَلِقُ عَلَيْهِ الأَرْوَاحُ نَحْوَ أَعْمَاقِهَا،لِكَيْ تَكْتُبَ، لا لِتَبُوحَ، بَلْ لِتُشْفَى.
كُلُّ جُرْحٍ يُكْتَبُ، لا كَقِصَّةٍ، بَلْ كَنُقْطَةِ ضَوْءٍ فِي نَفَقِ المَعْنَى.
كُلُّ حَرْفٍ، ارْتِعَاشَةُ قَلْبٍ تَائِهٍ فِي حَضْرَةٍ لا تُوصَفُ.كُلُّ فَاصِلَةٍ، تَنَهُّدَةٌ عَلَى عَتَبَةِ الغِيَابِ.وَالقَلَمُ، حِينَ يَسْكُنُهُ الأَلَمُ، لا يَعُودُ كَاتِبًا، بَلْ شَاهِدًا عَلَى عُبُورِ الرُّوحِ فِي مَمَرَّاتِ النَّارِ.
وَالتَّصَوُّفُ… لَيْسَ عِلْمًا يُدَرَّسُ،بَلْ فَنَاءٌ فِي النُّورِ، حِينَ يَتْعَبُ العَقْلُ الفَرْدِيُّ مِنْ مُلَاحَقَةِ الظِّلَالِ،وَعِنْدَهَا يَتَقَدَّمُ القَلَمُ، لا لِيَكْتُبَ،بَلْ لِيُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِذَاكَ الفَنَاءِ الجَمِيلِ،حَيْثُ لا فَرْقَ بَيْنَ سَطْرٍ وَدَمْعَةٍ،وَلا بَيْنَ حِبْرٍ وَحَنِينٍ إِلَى مَنْ لا يُدْرَكُ وَلا يُحَدُّ.
وَمَا الحَرْفُ إِلَّا إِشْرَاقٌ،وَمَا المِدَادُ إِلَّا تَرْجُمَانُ شَوْقٍ لا يُقَالُ،حِينَ أُذِنَ لِلسِّرِّ أَنْ يَتَجَلَّى مِنَ الغَيْبِ إِلَى الحَرْفِ،فَتَنَزَّلَتِ الكَلِمَةُ لا كَمَعْنًى، بَلْ كَكَائِنٍ مِنْ نُورٍ،أَرَادَ مَنْ هُوَ المُعِلُّ أَنْ يُشْهِدَ بِهِ الوُجُودَ عَلَى جَمَالِهِ.
فَالكِتَابَةُ إِذًا لَيْسَتْ فِعْلَ يَدٍ،بَلِ ارْتِجَافَةُ رُوحٍ تَذَكَّرَتْ مَقَامَهَا الأَوَّلَ،وَقَصْدُ نُقْطَةٍ إِلَى بَحْرِهَا الأَزَلِيِّ.هِيَ شَهْقَةُ الغِيَابِ حِينَ يَتَّسِعُ الحُضُورُ،وَوَمِيضُ بَصِيرَةٍ عَبْرَ نَافِذَةِ الأَلَمِ،حِينَ يَصِيرُ الحَرْفُ مِرْآةً،وَالقَلَمُ طَرِيقًا،وَالبَيَاضُ مَزَارًا لِلْمَعْنَى.
@جميع الحقوق محفوظة