لُغَاتٌ 🍂

الكاتب عماد أ. الاعور


مَا اللُّغَةُ؟

أَهِيَ حَرْفٌ يُرَتَّبُ، أَمْ نَبْضٌ يُفْهَمُ؟

أَهِيَ كَلِمَاتٌ تُقَالُ، أَمْ أَسْرَارٌ تُعَاشُ فِي صَمْتٍ بَلِيغٍ؟

إِنَّ فِي ٱلْوُجُودِ لُغَاتٍ خَفِيَّةً، لَا تُدْرَكُ بِٱلْعَيْنِ،

وَلَا تُتَرْجَمُ بِٱللِّسَانِ،

بَلْ يُقْرَؤُهَا مَنْ تَطَهَّرَ بِنُورِ ٱلْفَهْمِ،

وَصَلَّى فِي مِحْرَابِ ٱلتَّفَكُّرِ.
لُغَةُ ٱلْعُيُونِ،

لَحْنُ ٱلصَّمْتِ وَشِفْرَةُ ٱلْحَنِينِ،

تِلْكَ ٱلَّتِي تُفْصِحُ وَهِيَ صَامِتَةٌ،

تَسْكُنُ ٱللَّحْظَةَ وَتَفْضَحُ ٱلْغِيَابَ،

تُحِبُّ قَبْلَ ٱلنُّطْقِ،

وَتَبْكِي قَبْلَ ٱلدَّمْعِ.
وَلُغَةُ ٱلْقُلُوبِ،

هُوِيَّةُ ٱلْأَرْوَاحِ، وَدَفْقَةُ ٱلتَّجَلِّي،

تِلْكَ ٱلْأَعْمَقُ، ٱلَّتِي لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا مَنْ سَكَنَ فِي سَاحَاتِ ٱلصِّدْقِ،

وَلَا يَقْرَأُهَا إِلَّا مَنْ غَرَفَ مِنْ بَحْرِ ٱلرَّحْمَةِ،

هِيَ لُغَةُ ٱلْحُضُورِ فِي ظِلِّ ٱللَّاـكَلامِ،

وَٱلْإِيمَانِ ٱلَّذِي لَا يُشْتَرَطُ لَهُ دَلِيلٌ،

إِلَّا ذُبُولَ زَهْرَةٍ عَلَى قَلْبِ ٱلْمُحِبِّ.
وَلُغَةُ ٱلْمَحَبَّةِ،جِسْرُ ٱلْوُصُولِ إِلَى ٱلْغَائِبِ ٱلْحَاضِرِ،

تِلْكَ ٱلَّتِي تُذِيبُ ٱلْمَسَافَاتِ،

تَجْعَلُ ٱلْبَعِيدَ قَرِيبًا،

وَٱلصَّمْتَ قَوْلًا،

تَلْمُسُ ٱلْجِرَاحَ وَتُخَاطِبُهَا: “كُنْتِ بَابًا لِلرَّحْمَةِ.”
وَلُغَةُ ٱلشَّوْقِ،

نَفَسُ ٱلْخَلِيقَةِ فِي ٱبْتِهَالِهَا،

نَارٌ تُحْرِقُ بِرِقَّةٍ،

تَسْكُنُ فِي ٱلْأَضْلَاعِ كَمَا تَسْكُنُ ٱلأَنْفَاسُ،

تُذَكِّرُ ٱلرُّوحَ بِأَصْلِهَا،

وَتَسْحَبُهَا نَحْوَ مَنَابِعِ ٱلنُّورِ كَمَا يَنْجَذِبُ ٱلضَّوْءُ إِلَى ٱلضَّوْءِ.
وَلُغَةُ ٱلشَّغَفِ،

 نَارٌ تُؤَدِّبُ، وَلَا تُفْسِدُ،

لَهِيبُ ٱلْبَدَايَاتِ، وَصَبْرُ ٱلْمُجَاهِدِينَ،

وَلَهْفَةُ ٱلْعَارِفِينَ عَلَى نَفْحَةٍ،

تُزَاحِمُ ٱلأَيَّامَ لِتَسْتَبْقِي ٱلْوَجْدَ،

وَتُبَارِكُ ٱلأَلَمَ إِذَا كَانَ فِي سَبِيلِ ٱلْوُصُولِ.
وَلُغَةُ ٱلْعِشْقِ،

سَجْدَةُ ٱلرُّوحِ عَلَى عَتَبَاتِ ٱلنُّورِ،

ذَرْوَةُ ٱلتَّوَجُّهِ،

صَوْتُ ٱلرُّوحِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ نَحْوَ مَصْدَرِهَا،

وَشَهْقَةُ ٱلْكَوْنِ حِينَ يَشْهَدُ وَجْهَ ٱلْوَاحِدِ ٱلْأَحَدِ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّ،

فَتَبْكِي ٱلْأَنْوَارُ خُشُوعًا،وَتَرْتَجِفُ ٱلْكَلِمَاتُ إِجْلَالًا.
َهُنَاكَ لُغَةُ ٱلْجَسَدِ،

صَوْتُ ٱلصَّمْتِ ٱلْمُقِيمِ فِي ٱلْحَرَكَةِ،

فِي رَعْشَةِ ٱلْيَدِ، وَٱنْطِوَاءِ ٱلْكِتْفِ،

فِي ٱلْخُطُوَاتِ ٱلْمُنْكَسِرَةِ، وَٱلْأَذْرُعِ ٱلْمَمْدُودَةِ بِسُكُونٍ،

كُلُّهَا تَفْضَحُ مَا أَخْفَاهُ ٱلِّسَانُ،

وَتُتَرْجِمُ ٱلأَلَمَ وَٱلرَّجَاءَ بِدُونِ كَلِمَةٍ.
وَلُغَةُ ٱلصَّمْتِ،

هِيَ أَبْلَغُ ٱللُّغَاتِ،

فِيهِ يُوْلَدُ ٱلتَّفَكُّرُ،

وَفِيهِ يَسْكُنُ ٱلْوَحْيُ،

فِي ٱلصَّمْتِ نَسْمَعُ مَا لَا يُقَالُ،

وَنَبْصُرُ مَا لَا يُرَى،

ٱلصَّمْتُ هُوَ مِئْذَنَةُ ٱلرُّوحِ، يُؤَذِّنُ لِلْوُجُودِ بِٱلذِّكْرِ ٱلْخَفِيِّ.
وَلُغَةُ ٱلْأَمَلِ،

بُرْعُمٌ فِي صَخْرَةٍ،

ضِيَاءٌ فِي نَفَقٍ طَوِيلٍ،

كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي وَقْتٍ يَئِسَتْ فِيهِ ٱلْكَلِمَاتُ،

هِيَ وَعْدُ ٱلنُّورِ لِمَنْ أَظْلَمَتْ طَرِيقُهُ،

وَصَوْتُ ٱلْفَجْرِ فِي سَمَاءِ ٱلْمُنْهَكِينَ.
وَلُغَةُ ٱلْأُمِّ،

مِنْ رَحِمِهَا يَبْدَأُ ٱلْوُجُودُ،

وَفِي صَدْرِهَا يَسْكُنُ ٱلْأَمَانُ،

كُلُّ لَفْظَةٍ مِنْهَا دُعَاءٌ،

وَكُلُّ نَظْرَةٍ تَسْبِيحٌ،

تُرَبِّي بِنُورِ ٱلْفِطْرَةِ،

وَتُشْبِهُ ٱلْخَالِقَ فِي عَطَائِهَا ٱلْغَيْرِ مَشْرُوطِ.
وَلُغَةُ ٱلطَّبِيعَةِ،

حِينَ تُغَنِّي ٱلرِّيَاحُ، وَتُسَبِّحُ ٱلأَمْوَاجُ،

وَتَبْكِي ٱلْغُيُومُ عَلَى فُقَدَانِ ٱلْقُلُوبِ لِلصَّفَاءِ،

كُلُّ شَجَرَةٍ تَهْتِفُ، كُلُّ وَرْدَةٍ تَدْعُو،

كُلُّ جَبَلٍ يَخْشَعُ،

 وَكُلُّ صَحْرَاءَ تَذْكُرُ،

وَلَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ طَهُرَتْ نَفْسُهُ وَعَقَلَ ٱلْآيَاتِ.
وَلُغَةُ ٱلْكَوْنِ،

كِتَابُ ٱللَّهِ ٱلْمَفْتُوحُ،

كُلُّ جِرْمٍ فِيهِ حَرْفٌ

،وَكُلُّ دَوَرَانٍ فِيهِ جُمْلَةٌ تَسْبِيحِيَّةٌ،

ٱلْمَجَرَّاتُ تَدُورُ فِي ٱلذِّكْرِ،

وَٱلنُّجُومُ تَشْهَدُ،وَٱلسَّمَاوَاتُ تَخْشَعُ،

وَفِي كُلِّ ذَرَّةٍ تَجَلٍّ مِنْ نُورِ “كُنْ”.
كُنْ… فَكَانَ ٱلْكَوْنُ،

وَكَانَ ٱلْفِكْرُ،

وَكَانَ ٱلرُّوحُ ٱلْمُتَشَوِّفُ لِوَجْهِهِ،

ٱلْبَاحِثُ فِي ٱللُّغَاتِ عَنْ نَبْضِ ٱلْحَقِّ.
وَفَوْقَهَا جَمِيعًا،

 تَتَوَّجُهَا ٱلرَّحْمَةُ،سِرُّ ٱلْكَلِمَةِ، 

وَمِفْتَاحُ ٱلْوُجُودِ،تَاجُ ٱللُّغَاتِ،

 وَسِرُّ ٱلتَّوَاصُلِ ٱلْإِلَهِيِّ،

فِيهَا يَتَلَطَّفُ ٱلْجَلَالُ،

وَبِهَا يَتَجَلَّى ٱلْجَمَالُ،

وَعَلَيْهَا تَسْكُنُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْأُولَى،

 كَمَا أَرَادَهَا ٱللَّهُ: كُنْ.
كُنْ… فَكَانَ ٱلْعَقْلُ،

وَكَانَتْ مِنْهُ ٱلْكَلِمَةُ،

وَخَرَجَتِ ٱلْكَلِمَةُ تَرْجُمَةً لِإِرَادَةِ ٱللَّهِ مِنْ أمْرِهِ،

تَتَشَكَّلُ فِي لُغَاتِ ٱلْقَلْبِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْعَقْلِ وَٱلْكَوْنِ،

تَكُونُ مَرَّةً دَمْعَةً،

وَمَرَّةً قُبْلَةً،وَأُخْرَى سُجُودًا.
ٱللُّغَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ،

وَفِي كُلِّ آيَةٍ نُقْشٌ مِنْ جَلَالِهِ،

وَفِي كُلِّ نَبْضَةٍ رَغْبَةٌ فِي ٱلرُّجُوعِ إِلَيْهِ،

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ ٱلْمَحَبَّةَ نُطْقًا،

وَٱلرَّحْمَةَ صَوْتًا،وَٱلشَّوْقَ سَفَرًا،

وَٱلْعِشْقَ سَجْدَةً فِي ٱلرُّوحِ…نَحْوَ ٱلنُّورِ،

نَحْوَ ٱلْوَاحِدِ،نَحْوَ ٱلْحَقِّ.
نَعَمْ، سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ ٱللُّغَاتِ كُلَّهَا،

وَجَعَلَهَا سَبِيلًا إِلَيْهِ،

فِي نَظْرَةٍ، فِي صَمْتٍ،

 فِي صَرْخَةٍ، 

فِي سُجُودٍ،

فِي كُلِّ لُغَةٍ نُورٌ،

وَفِي كُلِّ نُورٍ دَلَالَةٌ

،وَفِي كُلِّ دَلَالَةٍ هُوَ.


@جميع الحقوق محفوظة