مأساة ثوب

  ايمان ابو شاهين يوسف - 16- 9- 2023   

    

واجهة جميلة وعرضها رائع، ثياب مميزة ذات ألوان جذّابة ونسيج حريريّ ناعم، يرافقها حقائب واحذية متناسبة معها في اللون والمظهر.

 السيدات تتدافع لاختيار ما يرضي غرورها ويزيد من سحرها وانوثتها. في هذه اللحظة دخلت باب هذا المتجر شابه رائعة الجمال وراحت تتأمّل الأثواب المعروضة بكلّ دقّة وتأني. تروح وتجيء ثمّ تقف أمام هذا الثوب الحريري الأخضر الذي يشبه اخضرار عينيها الجميلتين. وبدون تردد طلبت من التاجر أن ينزع هذا الثوب من الواجهة لكي تستطيع قياسه، فرحّب وبكل سرور.

 دخلت غرفة الملابس ووضعت هذا الثوب على جسمها فراح يتناغم سحرا وروعة مع سمار بشرتها وخضرة عينيها ونعومة ملامحها وشعرها البني المسدل على اكتافها، فصارت تشعّ انوثة ورقة وجمال. 

توجّهت الشابة الى المرآة، وراحت تنظر بإعجاب وثقة إلى جمالها، الذي كان يتكامل سحراً وجمالا مع هذا الثوب.  

لم تكن وحدها من يعجب ويثق بنفسه، بل الثوب أيضا من كان الأكثر إعجابا، حتى صارت الأفكار تدور في داخله معتقدا انه هو فقط مصدر الجمال والأنوثة كلّها، لذا كان متأكداً بأن الشابة ستشتريه وسيكون بالنسبة اليها الرداء المفضّل.

 اشترت الشابة هذا الثوب لأنه يناسب حفلة الزفاف المدعوة اليها، وفي اليوم المقرر ارتدته وهي في كامل تألّقها، فلفتت أنظار جميع الحضور وكانت موضع ثنائهم وإعجابهم. الأمر الذي أفرحها كثيراً كما أفرح الثوب بنسبة أكبر. 

انتهى الاحتفال وعادت الشابة الى بيتها. فور وصولها دخلت غرفتها لتخلع هذا الثوب وتضعه على علاّقة في قلب الخزانة، والثوب في نشوة وفرح عظيم وهو الذي يعتقد بأن ما حصل عليه من المديح والثناء سيمدّ بعمره ويجعله لاعبا أساسيا في حياة هذه الشابة. 

مرَّ اليوم الأول، مرَّ الأسبوع الأول، مرّت السنة الأولى والثوب مرمي في تلك الخزانة دون أن تلمسه يد إنسان. لم يعد يستطيع الاحتمال وراح يقول لنفسه:  

لماذا انا مسجون في هذه الخزانة وغيري يسرح ويمرح؟ 

لماذا أهملتني هذه الشابة بعد ان أدهشت بشكلي وجمالي؟

 هل عثرت على ثوب أكثر مني جمالا؟ 

أو ربما تعتبرني تحفة ولا تريد أن ترتديني إلا بالمناسبات التي تليق بي؟

 قرّر الثوب أن ينتظر مجدّدا ربما يأتيه الفرج وتعود اليه تلك الفتاة فترتديه ويخرج من سجنه ليرى الناس ويشارك في مناسبات الفرح علّه يستعيد شيئا من الصحة والعافية التي فقدها من شدة الضجر وألم الحسر، لأنه وكما يقال "الجنّة بدون الناس لا تداس " فكيف الذي يجلس في العتمة وكل الأبواب موصده من حوله فبكل تأكيد سيهرم ويشيخ قبل ان يؤون الأوان. 

طال انتظار الثوب وضاع منه الزمان عبثا، عندها قرّر العودة الى واجهة المتجر الذي جاء منه ربّما يكون له حظّا أوفر مع شابة أخرى. 

مع حلول الظلام خرج الثوب منسلاً من الخزانة، وراح يزحف زحفا خفيفا على الأرض كي لا يشاهده أحد ويسدّ عليه الطريق. بقي على هذا الحال حتى قطع تلك المسافة الطويلة بين البيت والمتجر. 

وصل الثوب مع بزوغ الفجر وجلس ينتظر قدوم صاحب المتجر، ومن شدة الإرهاق والتعب أخذته الغفوة ونام نوماً عميقا ليصحو مذعورا على صوت المارة وعمّال المتاجر. نهض مسرعا وسار باتجاه واجهة العرض دون أن ينتبه للغبار الذي علق عليه من السير زحفا والنوم على حافة الطريق.

 تقدّم الثوب وكلّه ثقة بأن المستقبل سوف ينصفه ويعيد له قيمته. راح يصعد واجهة العرض وقلبه ينبض بِشراً وفرحا. وما أن وضع قدمه حتى علا صراخ الثياب المعلّقة في تلك الواجهة وصاروا يدفعون به الى الخارج قائلين: ماذا دهاك، لا تقترب منّا، ألم ترَ الغبار الذي يلفّ أطرافك؟

 الى أين أنت عائد؟

 أين تريد أن تجلس؟

 ألم تنظر لنفسك في المرآة؟

 ألا تستحي من كِبَرِ سنِّك؟

 لا تلمس احدا منا وتنقل اليه قذارتك!

 ألا يكفي التجاعيد التي تبدو على وجهك! 

عد من حيث اتيت فلا مكان لك بيننا.

 نظر الثوب الى نفسه، فلم يجد به عيبا، رفع رأسه وقال: ما همّ إن كنت هرماً فما زال لوني جميل وخيوطي قويّة. 

عندما سمعت الثياب المعلقة ما قاله هذا الثوب العائد من السجن القديم، خبأت وجهها وراحت تضحك في سرّاً ثمّ قالت: أيها الثوب المتصابي أتعرف الى أي تاريخ يعود تصميم شكلك؟

 قال: طبعا للسنة التي ولدت فيها؟ 

قالت الثياب المعلّقة: تقول ولدت، وهل تحسب نفسك كائناً حيّا؟ قال الثوب العائد: لم أدّع ذلك، لأن الولادة ليست فقط للكائنات الحيّة، بل لكلّ كائن موجود في هذا الوجود، وطالما ان الوعي موجود في كلّ ذرة من هذا الكون فأنني أستطيع أن أدرك كلّ ما حلّ بي وأسعى لحال أفضل أستطيع من خلاله أن أتشارك الوجود مع كلّ شيء موجود.

 قالت الثياب المعلّقة: فلسفتك هذه يا صديق لا تنفع مع بني البشر، وبالنسبة إليهم فان قيمتك مرتبطة بحسن شكلك وانسجامه مع الذوق السائد في الزمان والمكان. ولآن الزمان هو العدو الأكبر للفتوّة والشباب فأنت قد أصبحت عجوزا وفقدت جمالك وصباك وأصبح مكانك في أسواق البالية. 

أجاب الثوب بغضب: لكني مصنوع من الحرير.

 قالت الثياب المعلّقة ساخرة: وهل الحرير هو الدواء السحري للشباب؟

 ثمّ أكملت قائلة: الفتوّة والشباب مرتبطان بالبنية والشكل، وهذا الشكل يخسر جاذبيته وجماله مع تقدم الزمن. 

لذلك كل الأشياء التي يرتبط وجودها بجمال شكلها وفتوّتها يكون عمرها قصير.  لهذا إذا كان لك شيئا من الكرامة والعزّة غادر بنفسك وعد من حيث اتيت قبل أن تدوسك الأقدام وتقذف بك الى مقبرة الزمان. نظر الثوب من جديد الى نفسه ثم نظر الى باقي الثياب المعروضة مخاطباّ نفسه: 

هَزُل هذا الزمان الذي أصبحت فيه هذه الثياب المزيّفة ذات الخيوط المصنّعة تعطي النصائح لثوب حريري نَسَجَت خيوطه ّ بِنْتُ الطبيعة وجعلته قويّاً متيناً لا تقوى عليه المحن والشرور. ولأن الحكمة تقول:

 " وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه “، فلن أجعل بعد اليوم من نفسي أضحوكة لتفاهة الموضة والتجديد، وسأعود كما غزلتني أيدي النساجين قطعة متكاملة مرفوعة على راية عالية تخفق عزا ومجداُ لتحيّي عظمة الطبيعة. 

وكما قال ارسطو: إذا كان طريقاً ما أفضل من أخر، فتأكد أنه طريق الطبيعة.