من الأرض إلى المنارة: حكاية آل أبي نصار، روّاد المعرفة والوفاء


بقلم: فاروق غانم خدّاج
كاتب لبناني مهتمّ بقضايا الأدب والفكر، ينشر في عدد من المنصّات، وله إسهامات بارزة بالعربية والإنجليزية. (نُشرت هذه المقالة بالإنكليزية على موقعي Medium و Substack)


في قلب جبل لبنان، بين طيّات المتن الأعلى، تتربّع رويسة البلوط كعروسٍ جبلية تخبّئ في جنباتها سرّ الجمال والكرم والتاريخ. هناك حيث يعانقها نهر المتن، كأنّه يمرّ ليغتسل بطيبة أهلها، تحتضن أرضًا خصبة وهواءً نقيًّا وسحرًا طبيعيًّا يأسر الألباب. لم تكن مجرّد قرية جبلية، بل كانت ولا تزال منارةً ثقافية واجتماعية، ملتقى للزجّالين والمغنّين، ومقصدًا للأدب والضيافة، حتى غدت مثالًا يُحتذى في طيب السكن وكرم الساكنين.
في تلك البقعة النقيّة، حيث تلامس الأرضُ السماء، وتهمس الحجارة القديمة بصدى المواويل، بزغ نجم عائلةٍ كان لها في العلم نصيب، وفي النضال شرف، وفي الوفاء للأرض جذورٌ ضاربة في العمق. إنهم آل أبي أمين فارس أبو نصار، الذين لم يكونوا مجرّد سكّان في رويسة البلوط، بل كانوا جزءًا من روحها ونبضها، كما النهر الذي لا يمرّ دون أن يترك أثرًا في كلّ منعطف.

أبو أمين فارس أبو نصار:

 من زراعة الأرض إلى زراعة العقول
في هذه القرية التي زفّتها الأيام عروس قضاء بعبدا، عاش رجل من طينة الكبار، رغم بساطة مظهره وهدوء حضوره. هو فارس أبو نصار، الفلّاح الذي غرس في أرضه الزرع، وفي أولاده بذور العلم والمعرفة. كان يؤمن أن الأرض تعطي من يخلص لها، وأن العقل يُثمر إذا رُوي بالعلم.
تكفّل هو وزوجته الفاضلة، الستّ أم أمين، بأن يربّيا عائلة تحمل الفكر والأدب على كتفيها، في زمنٍ كان الجهل فيه يحاصر الأرياف، والفقر يغلق أبواب الحلم. وبعد رحلة شاقّة من الكدّ والتضحية، تمكّن هذا الوالد المناضل من أن يزرع في أولاده حبّ المعرفة، وإن غيّبه الموت قبل أن يرى بأمّ عينه ثمار كفاحه يانعةً.

                                            القاضي أمين ابو نصار  

  
القاضي أمين:

 العدالة بميزان النزاهة
من بين أبنائه، برز القاضي أمين أبو نصار، الذي أصبح عَلَمًا في ساحة القضاء، يشهد له الجميع بفطنته ونزاهته الصلبة التي لا تعرف المساومة. كان يزن القضايا بميزان العدالة، ويخطّ أحكامه كما يَخطّ الشعراء قصائدهم: بدقّة، ورهافة، وعمقٍ قلّ نظيره.
وديع أبو نصار: 

كاتب العدل وشاهد الأمانة
أما وديع أبو نصار، كاتب العدل المعروف، فقد أصبح اسمه رديفًا للثقة في مدينة عاليه. كان مكتبه ملاذًا لكلّ من يطلب الحقّ، وقد سطّر العدالة والقانون بحروفٍ من ذهب، حتى غدت وثائقه شهادات حيّة على زمنٍ من النزاهة والصدق.

                                      سفير لبنان في روسيا شوقي ابو نصار

شوقي أبو نصار:

من ساحة المحاماة إلى رحاب الدبلوماسية
ومنهم شوقي أبو نصار، المحامي والدبلوماسي، الذي حمل هموم وطنه في قلبه وعقله، فانطلق من أروقة المحاكم إلى آفاق السياسة الخارجية. سفيرًا للبنان في ألمانيا ثم في روسيا، جمع في شخصه بين الحكمة والجرأة، وبين اللباقة وصلابة الموقف، كمن يسير على حدّ السيف بثقة فارسٍ لا يخاف السقوط، بل يصنع من كل خطوة أثرًا لا يُمحى.
فوزي أبو نصار: 

مهندس يبني جسورًا بين الحجر والمعنى
ولا يُنسى فوزي أبو نصار، المهندس اللامع، الذي لم يَغُره البعد عن قريته الأم، بل عاد إليها وفي جعبته عزيمة البنّاء. لم يكن مجرد بنّاء بالحجر، بل مشيّدًا لمعاني الوفاء والانتماء. قدّم خدماته لقريته ولقرى الجوار كمن يشقّ جسورًا من الصدق بين الماضي والمستقبل، ليربط الحنين بالإنجاز، والحبّ بالواجب.
سعاد وسلوى: 

رائدتا التربية والتعليم
ومن البنات، سطع نجم سعاد، المعلّمة الفاضلة التي أدارت مدرسة رويسة البلوط الرسمية لسنوات طوال، وخرّجت أجيالًا من أهل العلم والفكر. وإلى جانبها، كانت سلوى، التربوية التي كرّست عمرها للتعليم، تزرع الأمل في عقول الصغار، وتعلّمهم أنّ الطريق إلى المستقبل يبدأ من حرفٍ يُكتب بشغف.
جيلٌ جديد يحمل الشعلة
ومن أبناء القاضي أمين، وكاتب العدل وديع، والسفير شوقي، والمهندس فوزي، نهض جيلٌ جديد لا يقلّ كفاءة ولا طموحًا، يحمل شعلة آبائه، ويواصل المسيرة، رافعًا اسم الجدّ المؤسس عاليًا. لقد غدا بيت آل أبي نصار منارة في المتن، كما كان آل تقيّ الدين منارة في الشوف.
أثر لا يزول: 

حديث الذكرى
في طفولتي، حين كان أهلي يعملون في أرض آل أبي نصار المجاورة لبيتهم الأثري القديم، كنت أجلس تحت شجرة توت، أستمع بشغف إلى حواراتهم الغنيّة، كمن يتذوّق فاكهة فكرية لا يشبع منها. كنت أترقّب أحاديثهم عن القانون والأدب، وعيناي تلمعان بفرح الاكتشاف.
كنت أرى المحامي شوقي كلّ يوم، يحمل لأهلي طبق طعامٍ دافئ من خيرات أرضهم، ليطعم العمّال، أي أعمامي. وكنت أستغلّ تلك اللحظات القليلة لأحادثه عن أبيه، وعن تلك المسيرة التي بدأت بزراعة الأرض وانتهت بزراعة العقول.
وفي المساء، كنت أعود إلى جدّي، صديق والدهم، وأسأله عن أبي أمين فارس أبو نصار، عن صبره، وعن كدّه الذي أثمر عائلة أصبح اسمها يضيء أرجاء الوطن.

رسالة متجدّدة:

من القلب إلى الأبناء
اليوم، وأنا أحدّث أولادي مايا وميرا ومجد عن تلك الأيام، أستعيد من ذاكرتي بذورًا أنبتت في داخلي شغف الأدب والحقوق والتاريخ. لم تكن شهاداتي مجرّد إنجازات شخصية، بل امتدادًا لما غرسه أولئك الكبار في محيطهم. لم يدعموني دعمًا مباشرًا، لكنهم، دون أن يعلموا، قدّموا لي زادًا روحيًّا علّمني أنّ العلم رسالة، وأنّ الفكر ميراثٌ لا يندثر.
وإن كنتُ اليوم أسكن في الشوف، فإن ظلّ هذه العائلة المباركة يرافقني حيثما ذهبت، يُلهب في قلبي جذوة الطموح، ويذكّرني أنّ الجذور الطيّبة تظلّ تورق وتثمر، مهما باعدت بيننا الأيام والمسافات.
وهكذا، أبقى أُردّد لأولادي أنّ هذه الحكايات ليست مجرّد ذكريات، بل نبراسٌ يهدي الطريق، كما أرشدني، إلى أن قيمة الإنسان تكمن فيما يزرعه في عقول الآخرين، لا فيما يحصده لنفسه.

@جميع الحقوق محفوظة