بقلم: فاروق غانم خداج
مدرس ومنسق ومدقق لغوي، كاتب له إسهامات باللغتين العربية والإنجليزية.
سلمان الفارسي: حكيم الإسلام ورمز الوحدة في التراث الدرزي:
بقلم: فاروق غانم خداجمدرس ومنسق ومدقق لغوي، كاتب له إسهامات باللغتين العربية والإنجليزية
المصدر :نشرت هذه المقالة بالانكليزية على موقع medium و substack
مقدمة:
سلمان الفارسي... من الباحث عن الحقيقة إلى رمز الأمة:
في تاريخ الإسلام، تبرز أسماء رجال لم يكونوا فقط مقاتلين أو قادة، بل كانوا جسورًا بين الشعوب والثقافات. ومن هؤلاء، يلمع اسم سلمان الفارسي، الصحابي الذي عبر من بلاد فارس إلى قلب الجزيرة، باحثًا عن الحقيقة، حتى وجدها في الإسلام على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لكن ما لا يعلمه كثيرون، أن لسلمان الفارسي مكانة خاصة في وجدان الطائفة الدرزية، التي تراه رمزًا للمعرفة الروحية، وللوحدة بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.
سلمان الفارسي:
من عبودية البشر إلى حرية الإيمان
نشأ سلمان في بلاد فارس، في أسرة عريقة، لكنه كان يضيق بعبادة النار، ويتطلع إلى نور الحق. ترك بلاده، متحملًا آلام الغربة، وانتقل من معلم إلى آخر، ومن دين إلى آخر، حتى وصل إلى أرض العرب، حيث سمع بظهور نبي في المدينة المنورة.
لقاء سلمان بالرسول: لحظة إنسانية خالدة
حين التقى سلمان بالنبي، كان فقيرًا، غريبًا، بلا مال ولا سند، لكنه كان غنيًا بإيمانه. اختبر النبي بعلامات ذكرها له الكهنة، فلما تيقن من نبوته، ألقى بنفسه عليه وبكى من الفرح.
ولم يكن المهاجرون والأنصار غافلين عن فضل سلمان، لكنهم تنازعوا حول نسبه:قال المهاجرون: "سلمان منا"، وقال الأنصار: "بل سلمان منا"، فحسم النبي الأمر بكلمة تهز القلوب:"سلمان منا أهل البيت"
بهذه الكلمة، رفعه الرسول فوق العصبيات، وأدخله في أقدس دائرة، دائرة أهل البيت، رغم أنه ليس من نسلهم، بل من قلب فارس.في تلك اللحظة، شعر سلمان —الغريب الوحيد— بأنه وجد وطنه الحقيقي، ليس في بلاد، بل في قلوب المؤمنين.وقد أصبحت هذه الكلمة شعارًا للإنسانية الجامعة التي يعتنقها الدروز لاحقًا، حيث لا قيمة للعرق أو اللون، بل للصدق والبحث عن الحق.
سلمان في ميدان العمل:
بطل معركة الأحزاب
لم يكن سلمان رجل فكر فقط، بل كان رجل عمل. في معركة الأحزاب، حين حاصرت قريش المدينة، جاء سلمان بفكرة حفر الخندق، المستوحاة من خبرته الفارسية.أعجب النبي بفكرته، واعتنقها فورًا، وأنقذت المدينة من السقوط.وفي هذه اللحظة، أعاد النبي التأكيد:"سلمان منا أهل البيت"ليكون سلمان رمز الوحدة بين المهاجرين والأنصار، والعرب والعجم.
زهد سلمان وتقشفه:
الغنى الحقيقي في القناعة والعمل
لم يكن سلمان الفارسي رجل سلطة ولا طالب دنيا، بل عاش زاهدًا، متقشفًا، يرضى بالقليل، ويأنف من مظاهر البذخ.
كان يأكل من كسب يده، يعمل في صناعة الحصير، يبيعه وينفق على نفسه، رافضًا أن يعيش عالة على أحد.
قيل له يومًا: «يا أبا عبد الله، ألا تتخذ بيتًا؟» فقال: «إن لنا بيتًا هناك» — وأشار إلى السماء، في إشارة إلى أن الدنيا ممر لا مقر.
وكان إذا طبخ طعامًا كثيرًا، دعا الفقراء والمساكين ليشاركونه، فهو يرى أن المال بركة إذا وُزّع، ونقمة إذا احتُكر.
وقد ورث الدروز في ثقافتهم الروحية هذا التقدير للزهد والاعتماد على النفس، معتبرين أن العزة في القناعة، والشرف في الكسب الحلال، كما كان سلمان مثالًا حيًّا.فحياته كانت ترجمة عملية لقوله تعالى:"وما عند الله خير وأبقى"
سلمان الفارسي:
الحكيم الذي علمنا أن الشرف في العمل لا في النسب
كان سلمان الفارسي لا يكتفي بالعمل والعبادة، بل ينثر الحكم التي تعكس تجربته الطويلة في طلب الحقيقة والعيش بعزة النفس. ومن أقواله الخالدة:
"إنما الشرف بالتقوى، والعمل الصالح، لا بالآباء ولا بالأموال."بهذا القول، هدم سلمان مقاييس الجاهلية التي كانت تقدس الأنساب، وأعاد بناء الإنسان على أساس التقوى والعمل، وهي القيم التي يجلها الدروز في ثقافتهم الروحية.
وقال أيضًا، وهو يعظ من حوله:"القوت من كسب اليد، والبركة في القناعة، والعز في الاستغناء عن الناس."فكان يدعو إلى العمل الشريف، والزهد، والاعتماد على النفس، وهذه الفضائل تجد صداها في تعاليم التوحيد التي يعتنقها الدروز، حيث الكرامة في العفة والكد.
بهذه الأقوال، يُثبت سلمان أن القيم الحقيقية لا تتغير، وأن رسالة الإسلام —كما فهمها سلمان— هي في جوهرها دعوة للحرية الروحية، والكرامة الإنسانية، والوحدة بين الناس على أساس الإيمان والعمل، لا على أساس العرق أو المذهب.
مكانة سلمان في الفكر الدرزي:
الرمز الخالد للمعرفة والتوحيد
الدروز، الذين ينتمون إلى المدرسة الإسلامية التوحيدية، يحملون تقديرًا خاصًا لشخص سلمان الفارسي:
يرونه رمزًا للبحث العقلي والروحي، فقد جسد في مسيرته معاني الهجرة من الظلمات إلى النور، ومن التقليد الأعمى إلى المعرفة الحقة.
يُعتبر سلمان في التراث الدرزي، من الشخصيات التي تمثل التوحيد الخالص، والتجاوز على العصبيات القومية والمذهبية.
يروى في بعض نصوصهم المأثورة، إشارات رمزية إلى حكمته، وإلى دوره كحامل سر من أسرار التوحيد الإلهي.
سلمان الفارسي والدروز:
لقاء القيم المشتركة
عندما يتحدث الدروز عن سلمان، فإنهم لا يقفون عند الحدود الطائفية أو القومية، بل يستحضرون قيمًا كبرى:
الوحدة: مثلما جمع سلمان الفارسي بين الفارسي والعربي، وبين المجوسي السابق والمسلم المؤمن، كذلك يؤمن الدروز بوحدة الإنسان تحت راية التوحيد.
البحث عن الحقيقة: كما هجر سلمان دياره وأسرته بحثًا عن الدين الحق، يؤمن الدروز أن الدين لا يُورث، بل يُكتسب عن قناعة وبحث.
التسامح الثقافي: شخصية سلمان تجسد لقاء الثقافات، وهذا يتناغم مع الفكر الدرزي الذي يدعو إلى احترام التعددية ونبذ التعصب.
كلمات خالدة عن سلمان
قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من فارس"،في إشارة إلى عمق إيمان سلمان ومن يأتي من أمته، ممن يطلبون العلم والمعرفة ولو كانت بعيدة.
وقال أيضًا:"سلمان منا أهل البيت"،فأعلن أن الأهلية الحقيقية في الإسلام لا تقوم على الدم، بل على الإيمان والعمل والصدق في الطلب.
خاتمة:
سلمان الفارسي... الجسر بين الأمم والمدارس
إن أهمية سلمان الفارسي لا تقتصر على كونه صحابيًا جليلًا، بل تمتد إلى كونه جسرًا حضاريًا وروحيًا بين أمم وثقافات شتى.
عند الدروز، هو نموذج للتوحيد العقلي والروحي، الذي يسمو فوق القوميات والمذاهب.
في التاريخ الإسلامي عمومًا، هو مثال للمسلم الباحث، المخلص، العامل، الذي رفعه الله بالعلم والعمل، لا بالعرق أو النسب.
ومن هنا، تبقى شخصيته حية، ليس فقط في كتب السيرة، بل في قلوب من يؤمنون أن الحقيقة فوق كل انتماء ضيق، وأن وحدة الأمة لا تصنعها الأنساب، بل تجمعها القيم الكبرى التي مثلها سلمان في حياته.
@جميع الحقوق محفوظة