نبذة عن المؤرخ  الدكتور عباس أبو صالح


عباس أبو صالح: المؤرخ الذي جعل من التاريخ مشروعًا وطنيًا ونهجًا للتجدد

بقلم: فاروق غانم خداج 

 كاتب وباحث في الشؤون الفكرية والاجتماعية

 المصدر:(نُشرت هذه المقالة بالانكليزية على موقعي medium و substack)

عن الكاتب : فاروق غانم خداج: كاتب وباحث لبناني مهتم بقضايا الفكر والهوية، وناشط في الحقل الثقافي والاجتماعي، ينشر مقالاته التي تمزج بين التحليل العميق والأسلوب الإنساني عبر منصات عربية وعالمية


في زمن كاد فيه التأريخ أن يتحول إلى تكديس روايات وحفظ وقائع باردة، برز الدكتور عباس أبو صالح ليعيد إلى هذه المهنة روحها النقدية ورسالتها الكبرى.لم يكن الرجل مجرد مؤرخ يدوّن ما قيل، بل كان محللًا، مستقرئًا للمسارات، حافرًا في الوعي الجمعي ليُقيم من خلال كتاباته جسرًا بين ماضٍ يستحق الفهم، وحاضر يطالب بالبناء، ومستقبل يُراد له النهوض. هذا ما جعله واحدًا من الأسماء التي لا تكتفي بتوثيق التاريخ بل تصنع به مشروعًا فكريًا يخص الجميع، لا طائفة ولا فئة بعينها.
وُلد الدكتور عباس أبو صالح في بلدة بتلون الشوفية عام 1943، وتلقى تعليمه العالي في التاريخ، حائزًا على شهادة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأميركية. ومنذ بواكير مسيرته الأكاديمية، اتخذ من التاريخ سبيلًا لصياغة رؤية وطنية جامعة، ترى في الماضي منجمًا يُستخرج منه الدرس والعبرة، لا مجرد سرد للمفاخر أو اجترار للبطولات.


    قرية بتلون الشوفية مسقط رأس عباس بو صالح

تميّز أبو صالح عن كثير من المؤرخين بقراءته للتاريخ كقوة حيّة تسهم في تشكيل وعي الشعوب وبناء كرامتها الوطنية. وفي دراسته للموحدين الدروز، لم يقف عند حدود البحث الطائفي، بل جعل من هذا الموضوع بوابة لفهم أعمق لديناميكيات التعددية في المشرق، معتبرًا أن أي قراءة منصفة لهذا التراث تسهم في إثراء الفهم الوطني العام، لا في تعميق الانغلاق. ومن هنا جاءت أعماله، التي تُعد بحق إضافة لا غنى عنها للمكتبة العربية، وفي طليعتها كتابه المرجعي "التاريخ الوطني"، وكتابه "تاريخ الدروز في المشرق العربي"، فضلًا عن دراساته المعمقة في تاريخ لبنان الحديث، التي شكلت علامات بارزة في البحث الأكاديمي الرصين.
لقد كان أبو صالح ناقداً لما أسماه "ثقافة التقرير"، تلك التي يمارسها بعض من حملوا ألقاب المؤرخين، وهم في حقيقتهم لا يعدون أن يكونوا كتبة وقائع. أما هو، فكان يغوص في النصوص، يقرأ ما بين السطور، ويُعيد تركيب الصورة الكلية برؤية المفكر، لا بمجرد جمع الشهادات. ولعل هذا ما جعله، حتى في أيامه الأخيرة، متمسكًا بإيمانه بأن العلم هو السلاح الأصدق للحفاظ على الكرامة الوطنية، وجوهر التوحيد، وكرامة الإنسان في هذا الشرق المعذب.
كلماته الأخيرة، التي بعث بها في تسجيل صوتي قبيل وفاته، لم تكن وداعًا شخصيًا بقدر ما كانت وصية فكرية للأجيال القادمة.دعا فيها إلى النهوض، لا بالاكتفاء بتذكُّر الأمجاد، بل بتجديد المؤسسات وبناء وعي يستلهم التراث ليصنع المستقبل. في هذه الكلمات يتجلى الرجل الذي لم يكن حبيس الماضي، بل كان يُنقِّب فيه ليُطلق شرارة التحول في الحاضر.
وحين رحل عباس أبو صالح، لم يُغادر كمجرد باحث أنهى مسيرته، بل ترك خلفه تراثًا فكريًا يؤسس لاستمرار الحوار بين الهوية والانتماء، بين الجذور والآفاق. وأعماله، التي غدت مراجع معتمدة في جامعات المشرق، ستبقى شاهدة على المؤرخ الذي لم يكتب ليمجِّد، بل كتب لينبِّه، ويؤسس، ويدعو إلى نهضة شاملة، تبدأ من الوعي وتنتهي بالفعل.
إن من قرأ كتاباته يدرك أن الرجل صعد إلى عليائه، تاركًا قلبه مزروعًا في أرضه، وعقله مسافرًا في كل من يستلهم منه الطريق. وهكذا، فإن عباس أبو صالح لم يكن مؤرخ طائفة، بل كان ضميرًا تاريخيًا لوطن بأكمله، وعقلًا نقديًا عابرًا للحدود الضيقة.

@جميع الحقوق محفوظة