نِعَم، 🍂


الكاتب عماد الاعور


الألَمُ ليسَ مجرَّدَ تفاعُلٍ عابِرٍ،

 بل هو الحَدُّ الرَّفيعُ بينَ الكَأسِ والشّارِبِ، 

بينَ الوعيِ بما نُدرِكُ، والوِعاءِ الّذي يَحتملُ الإدراكَ.

هو البَرزَخُ القائمُ بينَ النّورِ الّذي يُبصِرُ، 

والعَينِ الّتي تَدمَعُ.
الألَمُ خُروجٌ منَ اللّحظَةِ، لا هُروبًا بل ارتِقاءً؛

هو الانفِصالُ المؤقَّتُ عنِ الآنِ، 

كي نَعودَ إليهِ أكثرَ حُضورًا، في لَحظةٍ أنقَى.

هو تَوقيعُ الزّمنِ على صفحةِ القَلبِ،

حينَ يَمرُّ دونَ أن يَستَأذِنَ، ويَترُكُ أثَرَهُ لا بالزّمنِ، بل بالحُضورِ.
الألَمُ دَمعَةٌ تَسقي البِذرَةَ الأُولى للنُّضجِ،

وابتِسامةٌ على وجْهٍ تَعلّمَ كيفَ يَحتملُ الضَّوءَ والظِّلَّ معًا.هو طِفلٌ يَبكِي لأنَّ العالَمَ كَبيرٌ عليهِ، 

وشَيخٌ يَبتسِمُ لأنَّهُ أدرَكَ أنَّهُ لم يَكنْ صَغيرًا يَومًا،

بل كانَ عَميقًا حتّى الانكِسارِ.
الألَمُ أبٌ يَهمِسُ في الغِيابِ: “أنا معكَ وإنْ لمْ تَرَني”،

وأمٌّ تَحضُنُ الوَجعَ حتّى حينَ تَكونُ في الجانبِ الآخَرِ منَ الضَّوءِ.

هو الحُضورُ حينَ يَغيبُ الجَسَدُ، والغِيابُ حينَ يَحضُرُ الظِّلُّ دونَ الرّوحِ.
الألَمُ صاعِقَةُ الرّوحِ حينَ تَمسُّ أرضَ الجَسَدِ،

لا لِتُحرِقَ، بل لِتُوقِظَ.هو الكَهرَباءُ المُقَدَّسَةُ الّتي تُعَرِّفُنا إلى أنَّنا لسنا أجسادًا تُحِسُّ، بل أرواحًا تَتَذَكَّرُ.
في الألَمِ، تتجلّى الأحديَّةُ في أَكثرِ صُوَرِها خَفاءً؛

فهوَ المُعَلِّمُ الّذي لا يَتَكَلَّمُ، والرَّسولُ الّذي لا يَكتُبُ،

والبابُ الّذي لا يُفتَحُ إلّا حينَ يُطرَقُ منَ الدّاخلِ. 
الألَمُ هو النِّسيانُ في قلبِ التَّذَكُّرِ،نِسيانُ ما لا يُنسى،

كأنَّ الذّاكرَةَ قد تَواطَأَت معَ الرَّحمَةِ،وتَذَكُّرُ ما نُسِيَ،

كأنَّ الحَنينَ استَأذَنَ الغِيابَ ليَعودَ بِشَظايا الحُضورِ.
هو لَيلُ النّورِ في عَتمَةِ الرَّجاءِ،نُورٌ لا يُرَى بالعينِ،

بل يُحَسُّ من عَُمقِ الغِيابِ،رَجاءٌ لا يُقالُ باللِّسانِ،

بل يُهمَسُ في صَمتِ التَّسليمِ.
الألَمُ صَلاةُ الرّوحِ الّتي لا تَعرِفُ ألفاظَ الدّعاءِ،

دُعاءٌ بلا صَوتٍ،

كأنَّهُ الذِّكرُ السِّرِّيُّ في صَمتِ المآقِي،

ورِضًا كُتِبَ على جَبِينِ القَلبِ من غيرِ حِبرٍ،وتَسليمٌ لا يُنطَقُ،

بل يُعاشُ في شَهقَةِ التَّصويبِ وصَعداءِ اليَقينِ.
هو رَغبَةُ الانقِطاعِ من شِدَّةِ الوَصلِ،

تَعبُ الأظافِرِ في قَبضَةِ التَّشبُّثِ،

حينَ يَصيرُ التَّمَسُّكُ وَجعًا،وتَصيرُ الرّاحَةُ في التَّخلّي، لا في الفَقدِ.
الألَمُ رِحلَةُ البَقاءِ في قارِبٍ يَتَهادَى على بَحرِ الفَناءِ،

بَقاءٌ لا يَتَشبَّثُ بالحَياةِ، بل يُعانِقُها كما هي:زائِلَةٌ…

لكِنَّها مَليئَةٌ بالمَعنَى،عارِيَةٌ… لكِنَّها مُغَطّاةٌ بالحُضورِ الإلهِيِّ.
الألَمُ كِتابٌ لا يُكتَبُ بالحِبرِ، بل تُسَطِّرُهُ أناملُ الغَيبِ بِحُروفٍ من خَفاءٍ،

كلُّ صفحةٍ فيهِ تَنهَضُ من وَجعٍ سابِقٍ،

وكلُّ كَلِمَةٍ تَهمِسُ بما لم يُقالْ،

قَصيدَةٌ تُنشَدُ في حَنجَرَةِ الصَّمتِ، 

حيثُ لا صَوتَ إلّا صَدَى الوعي المُستَتِرِ.
هو صِراعُ التَّحدِّي معَ التَّعبِ،

أقصَى الامتِحاناتِ حينَ يَختَبِرُكَ التَّعبُ لا في الجَسَدِ،

بل في المَعنى،هو مَعركَةُ الإرهاقِ معَ العُنفوانِ،

حينَ يَتوسَّلُ الجَسَدُ راحَةً،ويَصرُخُ الرّوحُ: 

“قُم! لم تَبلُغِ النّورَ بَعدُ!”.
الألَمُ جَملُ الصَّحراءِ، يَسيرُ في صَقيعِ القُطبِ المُتَجمِّدِ،

كائِنٌ منَ الصَّبرِ يُقاوِمُ نَقيضَهُ،

كأنَّهُ خُلِقَ لِيَمتَحِنَ المَعنَى في تَضادِّهِ،

ويُثبِتَ أنَّ مَن حَمَلَ الزّادَ في النّارِ، لا يَخشَى جَليدَ الوَقتِ.
هو بَسمَةُ حُوريَّةٍ جَميلَةٍ تَظهَرُ فَجأَةً لِعابِرِ سَبيلٍ عَطشانٍ،

تُعطِيهِ ما لا يُرتَوَى بِهِ،لكِنَّهُ يَـمضِي مُمتَلِئًا بالنّورِ، لا بالماءِ.
الألَمُ نَجوَى خَفِيَّةٌ لِمُتَأَمِّلِ النُّجومِ في ظَهرِ يَومٍ قائِظٍ،

يَرى ما لا يُرَى،ويُصغِي لما لا يُقالُ،

في لَحظَةٍ لم يُؤَذَّنْ فيها الحُلمُ،لكِنَّهُ حَضَرَ.
الألَمُ هو اختِيارُ الحَيرَةِ بإرادَةٍ يَقِظَةٍ،

هو قَرارُ الفارِّ حينَ يُدرِكُ أنْ لا مَهرَبَ منَ الوِجهَةِ،

وأنَّ الهَربَ في ذاتِهِ طَريقٌ إلى المُواجَهَةِ،

وأنَّ التِّيهَ قد يَكونُ أصدَقَ طُرُقِ الوُصولِ.
أعنِّي،على ضَعفِي الّذي يَختَبِئُ في جِلدِ القُوَّةِ،

على غُرورِ قُوَّتي حينَ تَلبَسُنِي ثَوبًا لا يَليقُ بي،

على جُبنِ الشُّجاعِ الصَّنديدِ فِيَّ،

ذاكَ الّذي لا يَخشَى السُّيوفَ،لكِنَّهُ يَرتَعِشُ أمامَ صَراحَتِهِ معَ نَفسِهِ.
أعنِّي،أنْ لا أنهَزِمَ أمامَ وَجعي،بل أنْ أنتَصِرَ بالإقْرارِ،

أنْ أرفَعَ رايَةَ الصِّدقِ فوقَ حُطامِ ادِّعاءاتي،وأنْ أعتَرِفَ لا ضَعفًا،

بل تَحرُّرًا،أنْ أَجثُو لا إذلالًا،

بل خُشوعًا أمامَ الحَقيقَةِ.
أعنِّي،أنْ لا أَدَّعِيَ الألوهِيَّةَ في لَحظَةٍ عِشتُها بجَهلٍ،

فأُخطِئَ الطَّريقَ،

وأظُنَّ ومضَةَ الوعي كَمالًا،وأَتُوهَ في نَفسي ظَنًّا أنَّني وَصَلتُ.
أعنِّي،على أنْ أرى نَفسي كما تَراها أنتَ:نَقصًا يَحتاجُ إلى فَيضِكَ،

وسُؤالًا لا يَكتَمِلُ إلّا بإجابَتِكَ،وظِلًّا لا مَعنَى لهُ دونَ شَمسِكَ.
أعنِّي،أنْ أكونَ إنسانًا،يَتَذَكَّرُ أَصلَهُ من سَرابٍ،

لكنَّهُ يَسيرُ نحوَ السَّماءِ،

بِخُطى الشَّوقِ،وجِراحِ المَحبَّةِ،وصَمتِ العِرفانِ.
إلى رأسي

@جميع الحقوق محفوظة