*هُرُوبٌ* 🍂

الكاتب عماد أ.الاعور


نَحْنُ لا نَجْهَلُ الحَقِيقَةَ…

بَلْ نَعْرِفُهَا كَمَا تُعْرَفُ الشَّمْسُ عِندَ الشُّرُوقِ.

نَلْمَحُ أَطْيَافَهَا فِي نَبَضَاتِ الضَّمِيرِ،

 وَنَشْعُرُ بِوَهْجِهَا فِي صَمْتِ التَّأَمُّلِ.

لَكِنَّنَا نُهَابُ نُورَهَا،

 فَنُطْفِئُ المِصْبَاحَ بِأَيْدِينَا،

 ثُمَّ نَشْكُو مِنَ الظُّلْمَةِ الَّتِي صَنَعْنَاهَا.

نُغْلِقُ أَعْيُنَنَا عَنِ النُّورِ، ثُمَّ نَلُوذُ بِالْعَتْمَةِ كَأَنَّهَا مَأْوًى…

وَيَا لَلْعَجَبِ: كَيْفَ يَشْتَكِي مَنْ اخْتَارَ الظِّلَّ غِيَابَ الضَّوْءِ؟

سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ النُّورَ شَهَادَةً،

وَامْتَحَنَ الأَنْفُسَ بِهِ لا بِالْجَسَدِ!
النَّفْسُ…

هَذَا الوِعَاءُ الْمَكْنُونُ، فِيهِ تَكْمُنُ الأَلْغَازُ وَتَتَوَارَى الأَسْرَارُ.

وَإِنَّ مِنْ أَصْفَى الأَدْعِيَةِ، دُعَاءَ مَنْ عَرَفَ عِلَّةَ ذَاتِهِ،

 وَلَمْ يَطْلُبْ سِوَى الشِّفَاءِ…

شِفَاءٌ مِنْ دَاءٍ يَتَخَفَّى فِي هَيْئَةِ الإِخْلَاصِ، 

وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْمَحَبَّةِ، وَهُوَ خَافِتٌ فِي نِيَّتِهِ،

 غَرِيبٌ عَنْ وِجْهَتِهِ…

إِنَّهُ دَاءُ الرِّيَاءِ؛ حِينَ تَنْقَلِبُ النِّيَّةُ مِرْآةً مَقْلُوبَةً،

 تُعَكِسُ وُجُوهَ النَّاسِ، وَتَغْفُلُ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ.
نُجَامِلُ مَنْ نُهَابُ، نُظْهِرُ الْبَشَاشَةَ،

وَنُخْفِي التَّوَجُّسَ.نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ مَكْسُوَّةٍ بِالْخَوْفِ،

وَنُلْبِسُ الْمُجَامَلَةَ لِبَاسَ الْفَضِيلَةِ، 

وَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِيقَتِهَا خَجَلًا مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ.

نَمْنَحُ وُجُوهَنَا ابْتِسَامَةً، وَقُلُوبَنَا تَنْهِيدَةً…

كَأَنَّنَا نَسْعَى لِحِفْظِ الصُّورَةِ، 

وَنَغْفُلُ عَنْ إِصْلَاحِ الْجَوْهَرِ.
أَيُّ تَبَدُّلٍ يُرْجَى مِنْ عَالَمٍ لَمْ تَبْدَأْ ثَوْرَتُهُ فِي دَاخِلِهِ؟

أَيُّ إِصْلَاحٍ نَأْمُلُ،

 وَأَعْمَاقُنَا مَا زَالَتْ مُوصَدَةً بِالأَقْفَالِ؟

أَوَلَمْ يَقُلِ الْوَحْيُ: “*إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ*”؟
فَلْنَخْرُجْ مِنْ أَسْوَاقِ التَّنَازُلِ…

وَلْنَسْتَرِدَّ ذَوَاتِنَا مِنْ خَزَائِنِ الضَّعْفِ، حَيْثُ كَانَتْ مَرْهُونَةً بِثَمَنِ الرِّضَى الزَّائِفِ.فَلْنَشْتَرِ أَدْوِيَةً لِلْقُلُوبِ،

 تُبْرِئُهَا مِنْ وَهْمِ الْمَظَاهِرِ،

وَمِنْ سُكْرِ الْمَدِيحِ، وَمِنْ جِرَاحِ التَّزْيِيفِ.
وَلْنَعُدْ إِلَى رُتْبَةِ *الْإِنْسَانِ *،

ذَاكَ الَّذِي لَمْ يَتَلَوَّثْ بِالزَّمَنِ،

 وَلَا تُقَيِّدْهُ الْحُدُودُ.ذَاكَ الَّذِي اسْتَبْدَلَ الزَّمَانَ بِالْأَبَدِ، وَالْمَكَانَ بِالْحُضُورِ.ذَاكَ الَّذِي غَاصَ فِي النُّورِ،

 وَلَمْ يَعُدْ يَعْرِفُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لِلْحَقِيقَةِ.
عِنْدَهَا… 

لَا يَعُودُ يَنْتَظِرُ الْجَنَّةَ فِي سَمَاءٍ بَعِيدَةٍ،

بَلْ يَصْنَعُهَا فِي سَكِينَةِ رُوحِهِ،

 فِي صَفَاءِ قَلْبِهِ، 

فِي عُمْقِ مَعْرِفَتِهِ.يَعِيشُهَا فِي اللَّحْظَةِ، لَا فِي حِكَايَاتِ “*كَانَ يَا مَا كَانَ*”،بَلْ فِي يَقِينٍ: *هُوَ اللَّهُ… لَا سِوَاهُ*.
هُنَاكَ حَيْثُ يَتَّحِدُ الصِّدْقُ بِالْمَحَبَّةِ،

فَالصِّدْقُ بِدُونِ حُبٍّ قَدْ يَتَحَوَّلُ إِلَى قَسْوَةٍ، 

وَالْمَحَبَّةُ بِدُونِ صِدْقٍ قَدْ تَصِيرُ خَدِيعَةً.

وَحْدَهُ الْقَلْبُ الصَّادِقُ الْمُحِبُّ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُشْرِقَ بِنُورٍ لَا يَخْذُلُ، 

وَأَنْ يُنِيرَ طَرِيقًا لَا يَضِلُّ.فِيهِ تُثْمِرُ الْكَلِمَةُ، وَتُشْفَى النُّفُوسُ،

وَيُؤْتَمَنُ السِّرُّ، وَتُؤْنَسُ الْوَحْدَةُ.
وَهُنَاكَ حَيْثُ تُقْرَنُ الْعِفَّةُ بِالْقُدْرَةِ،

فَلَيْسَتِ الْعِفَّةُ عَنْ عَجْزٍ،

 بَلْ هِيَ تَاجُ مَنْ يُمْسِكُ بِزِمَامِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَادِرٌ.

الْعَفِيفُ الْقَوِيُّ هُوَ سَيِّدُ نَفْسِهِ،

 لَا يَطْلُبُ بِهَوًى، وَلَا يَرْضَى بَانْحِنَاءِ.هُوَ الَّذِي مَلَكَ الْجَسَدَ بِالرُّوحِ،

 وَالنَّفْسَ بِالْعَقْلِ، وَالشَّهْوَةَ بِالْحِكْمَةِ.
وَهُنَاكَ حَيْثُ تَلْتَقِي النِّعْمَةُ بِالشُّكْرِ،

فَالشُّكْرُ لَيْسَ لَفْظًا، بَلْ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ النِّعْمَةَ لَيْسَتْ مِنَّا وَلَا لَنَا، بَلْ وَدِيعَةٌ تُؤَدَّى،

 وَرِسَالَةٌ تُؤْتَى.وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا فَنٌّ: التَّحَوُّلُ مِنَ التَّمَلُّكِ إِلَى التَّوَكُّلِ، وَمِنَ الأَخْذِ إِلَى الْعَطَاءِ، 

وَمِنَ الْفَضْلِ إِلَى الْفَنَاءِ فِي فَاعِلِهِ.
وَهُنَاكَ، فِي الْمَسْلَكِ الشَّرِيفِ،

تَتَّحِدُ النَّبَالَةُ وَالْفُرُوسِيَّةُ وَالشَّهَامَةُ،

 لَا بِمَعْنَاهَا الْعَنِيفِ، بَلْ بِمَعْنَاهَا النُّورَانِيِّ.

النَّبِيلُ لَيْسَ مَنْ سَكَنَ الْقُصُورَ، بَلْ مَنْ سَكَنَ قَلْبُهُ نُورٌ لَا يُطْفَأُ.وَالْفَارِسُ لَيْسَ مَنْ حَمَلَ السَّيْفَ، بَلْ مَنْ صَانَ الْكَلِمَةَ.

وَالشَّهْمُ لَيْسَ مَنْ أَنْقَذَ غَيْرَهُ فَحَسْبُ، بَلْ مَنْ أَنْقَذَ نَفْسَهُ مِنَ الْغُرُورِ، 

وَمِنَ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ.
فَجَمَالُ الْجَمَالِ، حَقًّا،لَيْسَ فِي الشَّكْلِ،

وَلَا فِي الصَّوْتِ، وَلَا فِي الْمَشْهَدِ…بَلْ فِي *الْحَقِّ الَّذِي لَا يُغَيَّبُ، 

وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا يُشْتَرَى،

 وَالْعَطَاءِ الَّذِي لَا يُنْتَظَرْ مِنْهُ رَدٌّ*.ذَاكَ هُوَ الْجَمَالُ النُّورَانِيُّ، 

الْجَمَالُ الَّذِي يُشْبِهُ اللهَ، 

لِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ،

 بَلْ يَفِيضُ.
وَفِي هَذَا الْمَسْلَكِ،يَتَحَوَّلُ الْهُرُوبُ إِلَى عَوْدَةٍ،

وَتَصِيرُ الظُّلْمَةُ مَهْدًا لِنُورٍ أَصْفَى،

وَتَغْدُو الْمَعْرِفَةُ مَحَجَّةً،

وَيُصْبِحُ الإِنْسَانُ إِنْسَانًا.
اللَّهُمَّ يَا نُورَ النُّورِ،

وَيَا هَادِيَ مَنْ فِي الظُّهُورِ وَالسِّرِّ الْمَسْتُورِ،

طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ رِيَاحِ الرِّيَاءِ،

وَزَيِّنْ أَرْوَاحَنَا بِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ،

وَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ إِذَا عَرَفُوا النِّعْمَةَ شَكَرُوا،

وَإِذَا قُدِرُوا عَفُّوا،وَإِذَا أُعْطُوا بَذَلُوا،وَإِذَا صَدَقُوا رَقَّ قَلْبُهُمْ،

 وَعَلَتْ هِمَّتُهُمْ.اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ يَخْشَوْنَ النُّورَ،

بَلْ مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُهُمُ النُّورُ،وَيَشْهَدُونَ وَجْهَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ،

وَيَغْرِسُونَ الْجَنَّةَ فِي الأَرْضِ،حَتَّى إِذَا لَقُوكَ،عَرَفُوكَ بِنُورِهِمْ، 

كَمَا عَرَفْتَهُمْ بِنُورِكَ.آمِينَ.