جسد خارج الخدمة

إيمان أبو شاهين يوسف

تقول الحضارات القديمة بأن الأرض كانت مسكناً للآلهة الذين كانوا يستمتعون بجمال هذه الأرض ويعيشون من خيراتها وعندما كثُر العمل وزادت حاجة الأرض للمزيد من الجهد والمثابرة، استقدمت الآلهة النّاس إلى الأرض حتى يقوموا بخدمتها وخدمة الأرض فيعتنون بها ويستفيضون من خيراتها وهكذا يحصلون على السّعادة وعلى رضى الآلهة.

 يقول صديقي: استوقفتني هذه الفلسفة للوجود الإنساني على الأرض، التي جعلت سبب وجود الإنسان هو العمل على هذه الأرض، والعمل من أجل الأرض وأجل آلهة الأرض ومن خلال العمل يحصل الخير، فيشبع الإنسان حاجاته، ويشعر بالسّعادة. 

وبعد أن تعرّضت لوعكةٍ صحيّة جعلت الأطباء يمنعوني من القيام بأي عملٍ يجهد الجسم حتى أحافظ على بقائي حيّاً استجبت في البداية بكل امتنانٍ وقبول وتوقفت عن أداء أي وظيفة ترهقني حتّى الطّعام حرّم عليّ ما طاب منه واقتصر حقي فقط بشرب الماء باعتدال وأكل بعض الحبوب والخضروات لكن بدون الملح مع الإقلال من تلك التي تحتوي على نسبةٍ عالية من الألياف أما الّلحوم فهي ممنوعة باستثناء وجبة بمعدل كفّ اليد من السّمك المشوي أو الدّجاج مرةً وعلى الأكثر مرتين في الأسبوع. 

أسبوعٌ مرّ وكل شيءٍ على ما يرام، وتبعه الواحد تلو الآخر على نفس القانون والأحكام، مما جعلني أبدأ بالتململ والشّعور بالنقص والضّيق فتفجّرت بداخلي الأحاسيس والأفكار ورُحت أسأل نفسي: ماذا يمكن أن نسمّي هذه المرحلة التي نعيشها على هذه الأرض وأجسادنا خارج الخدمة؟ أو لماذا ما زلنا على قيد الحياة طالما انتهى الدّافع لوجودنا على هذه الأرض؟ هل هو امتحان لنا للتّأكد من إيماننا ويقيننا بخالق الكون؟ أم هو الضّوء الذي يسمح لنا النظر بوضوح إلى حقيقتنا في هذا الوجود؟

 تساؤلاتٌ رمت بثقلها عليّ دون أن تلقى مني جواب. عدت إلى نفسي وأنا أحمد الله على نعمه الكثيرة التي منَّ بها علينا، ولو أنه لم يعُد بإمكاني تناول ما لذّ من المأكل والمشرب، كما ولا أستطيع القيام بالنّشاط الحركي الذي كان سمتي الأساسيّة ومصدر شعوري بفرح الحياة. 

هذا الحرمان من المأكل والحركة، أيقظ بداخلي التساؤل عن الغرائز الإنسانيّة التي تعيش في صراعٍ دائم مع العقل، ورحت أحلّل نظرية سيغموند فرويد " النّظرية البنيوية" التي تعتبر أقسام النّفس البشريّة ثلاثة (الهو، والأنا، والأنا العليا) وقد عبّر عنها فرويد بهذه المصطلحات الثّلاث ليصف فكرته عن التّقسيم بين العقل الواعي والعقل اللّاواعي إذ يعتقد فرويد أن هذه المصطلحات تبيّن العلاقات الديناميكيّة بين الوعي واللاوعي، بحيث أن الأنا غالباً ما تكون واعية، وهي التي تتعامل مع العالم الخارجي، بينما الأنا العليا واعية جزئياً وهي بمثابة المحكمة الأخلاقيّة الداخليّة، في الوقت التي تمثّل الهو اللاوعي وهي مصدر الرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة.

 أما بالنسبة للرّغبة فقد يلتبس مفهومها بنظر بعض الفلاسفة مع الحاجة رغم أن هذين المصطلحين قد يكون أحدهما مبرراً للآخر.. وقد اعتبر أرسطو أن الرّغبة هي نزعة غريزية، وشهوة، وفعل يتطلب الجرأة، واعتبر أنه يُراد منها تحقيق السّرور والمتعة.  كما رأى الفيلسوف الفرنسي  ديكارت أن الرّغبة ليس لها نقيض لأنها تتكون من الشّهوة والنّفور معاً.

 أما الفيلسوف الألماني كانط فقال إن الرّغبة هي قدرة وملكة تختص بها جميع الكائنات الحيّة وتدفعها إلى اتخاذ مختلف أشكال التّصرفات والأفعال بما يحقق رغباتها ويتوافق معها.  

وبالنسبة إلى فرويد  فهو يرى أن السّلوك البشري مدفوعٌ بالرّغبات. إذن طالما أن الرّغبات هي الدّافع الحقيقي لكلّ ما نقوم به في هذه الحياة لماذا أسمع وأقرأ للكثير من الفلاسفة والعلماء الذين يدعون  للتغلّب على الغرائز والرّغبات والسّير في نهج الأتقياء الأنقياء؟؟ ومنهم أفلاطون الذي يرى أن الأخلاق هي بالابتعاد عن الرّغبات والغرائز حتى يحقّق الفرد السّعادة والفضيلة... كما يرى أن النّفس أهم من الجسد تمشيّاً مع ما يقوله أستاذه الفيلسوف سقراط حيث يرى بأن الجسد يقوم بحمل النّفس وتوجيهها إلى السّلوك غير الأخلاقي... وهو يشدّد على مفهوم أن الأخلاق قائمة على الفضيلة، وأن السّعادة والرفاهية هما الهدف الأسمى للفكر والسّلوك الأخلاقيين... 

طبعاً أنا لا أنكر دور الأخلاق في السّلوك الإنساني، لكن لا أدري اذا كانت النّفس أهم من الجسد، لأنّني وبعد أن أَصبحَ جسدي خارج الخدمة لم أعد أعرف طعم الحياة وهذا ما جعلني أتساءل هل الرّغبات والغرائز هي مصدر شرّ في حياة الناس أم أنها ضرورةٌ أساسية لكلّ إنسان حتى يتمتّع بالمعنى الحقيقي للحياة الإنسانية؟

 الجواب عند الفلسفة الشرقية: هذه الفلسفة التي تنادي بالتّوازن الدّاخلي والتّناغم مع الكون والمجتمع حيث يعتبر التّوازن الدّاخلي بين الجسد والعقل والرّوح، ضرورياً لتحقيق السّعادة والسّلام الدّاخلي.

 وتشير الفلسفة الشّرقية إلى ضرورة تحقيق التّوازن والتّناغم بين القوى الدّاخلية وبين الجانب الخارجي وبين الجانب الرّوحي والجانب البدني والطّبيعي.... لتتحقق سعادة الإنسان مع المحافظة على سعادة من حوله.

 إذن لماذا حُمّل الإنسان أعباء كبيرة وتخويفاً عظيماً من الخطيئة؟ وهل بالفعل يوجد خطيئة أم أنّها سلوكٌ غير متوازن بين رغبة الإنسان والأخلاق؟؟؟ والحق أقول يا صديقي، أنه عندما عاد الألم إلى جسدي توقّفت عن التفكير وعن الطروحات الفلسفية التي قيّدت الإنسان بتناقضاتها وأربكته بتشعباتها، وجعلته محتاراً في خياراته، إذ حوّل الكثير منها الرّغبة إلى شرّ والحاجة إلى خطيئة جعلت النّاس يعيشون الحسرة أو الضّياع بسببها.  

واليوم وبعد أن حرمني المرض من تلبية رغبة المأكل وحاجة الحركة شعرت بأنه لم يعد لوجودي من معنى خصوصاً وأنّي لم أعد قادراً على العطاء والإنتاج ثمّ وبعد طول تفكيرٍ قلت في ذاتي:  الحكمة الحقيقيّة لحياة الإنسان هي أن يعيش الحياة بتوازنٍ فلا يحرم الجسد حقوقه، حتى لو سميت هذه الحقوق رغبات وغرائز أو حاجات ودوافع وعليه أن يتمتّع بهذه الحقوق بما يتناسب مع القانون الطبيعي من جهة والقيم والأخلاق من جهة ثانية فيسعد بها قبل أن يصبح جسده خارج الخدمة. 

في الوقت نفسه عليه ألّا يحرم العقل والروح من دورهما ويهتمّ بأخلاقه والعمل الصّالح منذ بداية حياته حتى الممات، مع التأكيد بأن الإنسان ومهما كان سبب وجوده، فطالما خلق من جسدٍ  وروح، أصبح من الواجب عليه أن يعطي بتوازن حقوق كلّ منهما، وبذلك يعيش بسعادةٍ وكرامة مشكوراُ أمام نفسه ومجتمعه وخالقه كما وعليه أن يتذكّر دائماً أن العطاء لا يقتصرعلى الحركة الجسدية وأن السّعادة مصادرها كثيرة.

 وأخيراً نشكر الله على كلّ يومٍ تشرق فيه الشمس علينا. 


المراجع 

- رواية صديق

- كتاب الأخلاق – أحمد أمين

- نظرية العقل – جورج طرابيشي

- عزاءات الفلسفة – آلان دوبوتون

- فلسفة اللذة والألم – محمد أركون

- مائدة افلاطون: كلام في الحب – محمد لطفي جمعة

- كتاب الفلسفة الشرقية القديمة- د. مصطفى حسن النشار- pdf